دخلت فرنسا، عند الساعة 12 من ظهر اليوم الثلاثاء بتوقيت باريس، حالة العزل التام الذي أعلنته الحكومة مساء أمس، وذلك لمدة 15 يوماً على الأقل، في مسعى للحدّ من تعاظم وباء فيروس كورونا، بعدما بلغ عدد الفرنسيين، المصابين بالفيروس 6633 شخصاً، والمتوفين 148.
وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد أعلن في كلمة له أمس، عدداً من التدابير الجديدة لمواجهة الفيروس، وفي مقدمتها "منع التجمعات" بكل أشكالها، بدءاً من ظهر الثلاثاء، وخفض التجول المسموح به في البلد بشكل كبير.
لكن الغموض الذي لفّ كلمة ماكرون، وتجنّبه ذكر تعبيرَي "عزل" و"حظر تجول"، تسبّبا بحالة من الارتباك والبلبلة بين الفرنسيين، الذين يعرفون أساساً حالة من منع التجمعات وتخفيض التجول في البلد.
ووجد الفرنسيون أنفسهم أمام خطاب رئاسيّ يلمّح إلى فرض العزل التام، دون إعلانه رسمياً، ويصعّد بلاغياً ضد الفيروس، مكرراً القول إن فرنسا تعيش "حالة حرب" و"حرباً صحية"، دون إصدار تدابير ملموسة تذهب أبعد من تلك المعمول بها أساساً.
وتناولت الأطراف السياسية المعارضة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، خطاب ماكرون بالنقد، كما فعل جان لوك ميلانشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي، الذي أشار إلى "ضبابية" ماكرون، في حين قالت زعيمة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، مارين لوبان، إن خطاب الرئيس الفرنسي لم يكن "واضحاً بما يكفي ليفهم كل واحد منا أن المقصود هو حالة عزل".
ولم تمضِ ساعتان حتى جاء وزير الداخلية، كريستوفر كستانير، أو "شرطيّ فرنسا الأول" كما يُسمّى، ليقول الأمور بشكل أكثر وضوحاً من ماكرون، معلناً دخول البلاد حالة من "العزل" تأخذ مما جرى في إيطاليا وإسبانيا نموذجاً لها، وتشمل حظر التجول، بدءاً من ظهر اليوم الثلاثاء، والتزام المنازل، إلا للحالات القصوى، التي لا بدّ من البرهنة عليها عبر توقيع وثيقة، نُشرت نسخة منها على الإنترنت، يقتضي بمَن يريد الخروج من منزله حملها معه.
وتشمل استثناءات الخروج من المنزل الخروجَ للعلاج أو للتوجه إلى الصيدليات، والخروج للعمل في حال كانت طبيعة العمل لا تسمح بالقيام به من المنزل، إضافة إلى الحالات العائلية "الملحّة"، كالذهاب لإحضار الأولاد بين الأزواج المطلقين، وانتهاءً بالخروج للتبضع أو لممارسة "نشاط بدني حول المنزل" و"بشكل فرديّ فقط".
وأشار كستانير إلى أنه سيجري توزيع 100 ألف عنصر شرطة وأمن في أنحاء البلاد لضمان تنفيذ هذا الإجراء، وأن غرامة مالية قدرها 38 يورو تنتظر المخالفين في الأيام الأولى من الحظر، لترتفع بعد ذلك إلى 135 يورو.
لكن هذه التصريحات لم تبد مقنعة للمسؤول الأول في نقابة الشرطة، دافيد لوبار، الذي تساءل، على إذاعة "فرانس إنفو"، بالقول "من أين سيأتي وزير الداخلية بـ100 ألف شرطيّ؟"، في وقت يعرف تعداد رجال الأمن انخفاضاً، كما يقول، بسبب الإجازات التي تقدم بها جزء منهم للبقاء قرب أبنائهم في المنزل، وبسبب إصابة جزء آخر بالعدوى.
وانتقد لوبار تحديد الغرامة بـ38 يورو ومن ثم بـ135 يورو فقط، وهو مبلغ غير كاف، في رأيه، لردع الناس عن مخالفة القرار، مذكراً بأن الغرامة ترتفع في بعض أقاليم إسبانيا إلى ألف وألفي يورو، ما من شأنه دفع الناس إلى التفكير مرتين قبل المجازفة بالخروج من منازلهم لأسباب غير ضرورية.
وبهذه القرارات، تلجأ فرنسا، أخيراً، إلى المنطق الذي سبقتها إليه إيطاليا وإسبانيا، والذي بدأ، كما يبدو، بإظهار ثماره في إيطاليا على الأقل، حيث راحت تظهر الأرقام تباطؤاً ملحوظاً في أعداد المصابين الجدد، لا سيّما في مناطق شمال البلاد التي سبقت غيرها إلى العزل.
وكان كثيرون طالبوا الحكومة الفرنسية، منذ أكثر من أسبوع، بأخذ العبرة مما جرى في إيطاليا، التي دفعت ثمناً باهظاً لتأخرها بفرض العزل التام، خصوصاً وأن كل المعطيات والرسوم البيانية لأعداد المصابين والمتوفين يومياً تظهر تطابقاً بين النحو الذي ينتشر فيه الوباء في فرنسا، والنحو الذي انتشر فيه في إيطاليا، مع فرق قدره 8 أيام بين مستوى الوباء في البلدين.
ووصل نقد الحكومة وتأخرها في اتخاذ قرار كهذا إلى قلب الأغلبية الحاكمة، إذ إن أنييس بوزان، وزيرة الصحة السابقة، ومرشحة الحزب الرئاسي الخاسرة في انتخابات بلدية باريس، التي أجريت الجولة الأولى منها أول من أمس الأحد، قالت: "كان علينا إيقاف كل شيء" قبل هذا الوقت، في إشارة إلى إصرار الحكومة على إجراء الانتخابات الأحد، رغم المخاطر. ونددت بوزان بما سمته "مهزلة".
وفي مشهد يعيد إلى الأذهان ما حصل في شوارع ومحطات إيطاليا قبل أيام، شهدت طرقات العاصمة باريس ومحطات قطارها، صباح اليوم، ازدحاماً كبيراً، حيث امتلأت بمن يحملون أمتعتهم في مسعى لـ"الهرب" من العاصمة إلى منازلهم أو منازل أهاليهم في بقية أنحاء البلاد، لقضاء فترة العزل.
وأعلن كثير من المسؤولين المحليين تخوفهم من "موجة النزوح" هذه ومن أن تحمل معها الفيروس إلى مدن أخرى بل وحتى إلى أصغر القرى، التي ظلت حتى الآن في مأمن عن موجات الوباء الكبرى، والتي تبقى أقل جهوزية لمواجهة الفيروس.
ويزيد من هذه المخاوف أن منطقة إيل دو فرانس، التي تقع فيها باريس، تعد من أكثر المناطق تأثراً بالفيروس في البلاد، حيث اقترب عدد المصابين فيها، المعروفين من قبل السلطات على الأقل، من الألفين، في حين يقدر أطباء وجود آلاف المصابين غير المعلنين.