فخّ الإدمان.. السوريّون ضحاياه وسط الحرب

20 يوليو 2015
ظاهرة الإدمان تلازم المجتمعات التي تعيش أزمات (Getty)
+ الخط -

في البيئات التي تشهد أزمات وحروب، يتحوّل الإدمان مظهراً من مظاهر تردّي الأحوال العامة. وفي حين راحت المواد المخدّرة بأنواعها تنتشر أكثر فأكثر، يتخوّف المعنيّون من تبعاتها على المجتمع السوري المأزوم.

يُعَدّ الإدمان بأشكاله المختلفة واحدة من كبرى الآفات التي تهدد المجتمع السوري بكل مكوناته اليوم. وعلى الرغم من أن الظاهرة ليست جديدة بالمطلق ولا يسلم منها أي مجتمع في العالم، إلا أنها تنتشر بشكل مخيف بين السوريين أخيراً، في غياب أي جهة معنيّة بضبط الظاهرة أو علاجها. وهو الأمر الذي يجعل من الإدمان خطراً على صحة السوريين النفسيّة وعلى مستقبلهم كذلك.

وفيما يقول كثيرون بأن انتشار ظاهرة الإدمان ملازمة للمجتمعات التي تعيش حروباً، يرى آخرون ضرورة التوقف عندها سريعاً وبذل الجهود للتوعية وتوفير الدعم والاستشارات الطبية والنفسية بهدف الحدّ من انتشارها وتبعاتها.

وتختلف طبيعة المادة المخدّرة الأكثر رواجاً بين منطقة وأخرى، مثلما يتفاوت انتشار التعاطي في ما بين فئات المجتمع المختلفة. يشير الصيدلاني عمر عبد الكريم إلى أن ظاهرة الإدمان لم تعد خفيّة على أحد. يضيف أن "أعداد الذين يقصدون الصيدلية ويطلبون العقاقير المخدّرة باتت كبيرة جداً، من نساء وشباب ومقاتلين ونازحين ومتعلمين وجاهلين. المتعاطون من جميع فئات المجتمع". ويتابع: "أعتقد الأكثر رواجاً هنا في داخل سورية هو العقاقير، إذ إننا نعيش في بيئة محافظة يسهل على المدمن تناول العقار أكثر من الكحول مثلاً. هو قد يتذرّع بأنه دواء ولا يمكن لأحد أن يلومه. بعض المقاتلين في فصائل معارضة يبررون تعاطي العقاقير، في حين يحرّمون الكحول".

من جهتها، توضح آية مهنا وهي متخصصة في علم النفس العيادي، أن "ظاهرة الإدمان تسجّل عادة في مختلف الأوساط. والوقوع في الإدمان يرتبط بالشخصية، أكثر مما يرتبط بالدين أو العرق أو الجندر أو البيئة الاجتماعية". وتشير إلى أن "الجميع لديهم مستوى متقارباً من الرغبة في تعاطي أنواع المخدرات لنسيان ما يمرّون به، إلا أن بعض الشخصيات تبدي استعداداً أكبر من غيرها، كالشخصيات العاطفية وتلك التابعة".

والضغوط النفسية التي تتسبب بها الحرب هي المبرر الرئيسي الذي يلجأ إليه المدمنون، فيما يرى آخرون أنها ليست أكثر من ذريعة لتبرير تعاطي هذه المواد المخدرة. وتقول مهنا: "لا شك في أن الضغوط النفسية هي السبب. الناس الذين يصلون إلى حافة الإدمان يبدون عجزاً نفسياً في التعامل مع ما يمرون به من ضغوط مختلفة، ولا يستطيعون التعبير عمّا يشعرون به. ويبقى الإحساس بالسوء أسيراً في داخلهم، لا يستطيعون الإفراج عنه بسبب الخجل أو عدم وجود من يستمع إليهم أو يثقون به". وتلفت إلى أن أكثر من 60 في المائة من المدمنين الذين عاينتهم، يعانون من اضطرابات نفسية كالاكتئاب.

في السياق، يكثر الحديث في الشارع السوري عن انتشار الإدمان بين المقاتلين من جميع الأطراف. ويحكي معتز من اللاذقية، أن "معظم جنود النظام يدمنون الكحول. هم يأتون إلى سوق المدينة لبيع المسروقات وشراء كميات كبيرة من المشروبات الكحولية". أما مهنا فتتحدّث عن "حالات إدمان بين مقاتلي فصائل المعارضة، وعن الترابط ما بين ممارسات العنف وتعاطي المواد المخدرة". تضيف أن "المخدر لا يسبب العنف، إنما يشكّل مهرباً للمقاتلين مما يعيشونه ويمارسونه من عنف".

اقرأ أيضاً: عيدٌ بين القبور وفي الزنازين ووسط الركام 

حشيش

تدخين الحشيش هو أحد أبرز مظاهر الإدمان التي انتشرت بشكل واسع أخيراً في أوساط الشباب السوري، والتي عززها اختلاطهم بمجتمعات أخرى. عمار، يعيش مع أصدقاء له في مدينة غازي عنتاب التركية، ويعمل في إحدى المنظمات الإغاثية، يصف حياته بالمنقسمة، إذ يقضي نهاره في تماس مع مآسي اللاجئين هناك، أما الليل فيمضيه مع أصدقائه في المنزل حيث يشربون الكحول ويدخنون الحشيش بشكل يومي. وهذا النمط مستمرٌ منذ أكثر من سنة ونصف السنة. بالنسبة إليه "كل شيء طبيعي وما من داع للقلق على صحتي النفسية". يضيف: "لا يستطيع أحد من السوريين تغيير أيٍ مما يجري حوله. الفوضى والمآسي في كل مكان. الظروف ليست طبيعية حتى نتعاطى معها على أنها كذلك ونتصرف بطبيعية". ويتابع ضاحكاً: "أقل ما نستحقه في هذه الظروف هو تدخين الحشيش". وهذه التبريرات نفسها التي يقدّمها محمد، وهو شاب سوري في لبنان. يقول: "يجعلني الحشيش أطوّل بالي على المصائب التي تحل بي وبعائلتي. هو لا يسبب الإدمان، فلماذا لا أستعين به؟".

كثيرون يرون أن الحشيش لا يسبب الإدمان، لكن وجهات النظر الطبية لا تؤيّد ذلك. ويقول عبد الهادي قناع وهو صيدلاني، إن "الحشيش المستخرج من نبات القنب الهندي لا يسبب إدماناً فيزيائياً في جسم الإنسان، وإنما إدماناً نفسياً يجعل الإنسان يلتزم بتدخينه لفترات طويلة من حياته، وذلك بسبب تعوّده على الشعور الذي يولّده الحشيش المصنّف علمياً من ضمن المواد المخدرة. وبالإضافة إلى ما يفقده الإنسان من تركيزه ومهاراته عندما يكون تحت التأثير المخدّر للحشيش، فهو يؤثر على المدى الطويل بشكل سلبيّ على الدماغ، إذ يُضعف قدرة الإنسان على التذكّر والتركيز والتعلّم".

وتشير دراسات إلى أن أكثر من 90 في المائة من المدمنين لا يملكون معلومات صحيحة عن المادة المخدّرة التي يتعاطونها، إذ تدفعهم رغبتهم إلى تصديق ما يرغبون فيه فقط. وتلفت مهنا إلى أن "ما يتسبب به الحشيش من انعزال، يُضاف إليه تأثيره في تفعيل بلوغ حالة الفصام لدى عدد من الأشخاص. هو يتسبب بحالات أولى من الهذيان أو الرهاب".

ترامادول

إلى ذلك، يأتي عقار "ترامادول" في رأس قائمة المواد الدوائية التي تسبب الإدمان في سورية. هو يستخدم طبياً كمسكّن ألم مركزي خصوصاً بعد العمليات الجراحية. ويتورّط مرضى كثيرون في إدمانه بعد استعماله بهدف علاجي. أما آخرون فيتعاطونه بهدف تحسين المزاج، لكنهم سرعان ما يدمنون عليه. ويتسبّب هذا العقار في حالة من الإدمان النفسي والجسدي، مع هذا يعتقد كثيرون أن كونه دواءً يعني أنه لن يسبب لهم الأذى.

أمل (37 عاماً)، أمّ لثلاثة أطفال، أصيبت قبل عام ونصف العام بشظية أضرّت بساقها وعمودها الفقري، ما اضطرها إلى إجراء عدد من العمليات الجراحية. حينها، تطلّب الأمر تناول الترامادول كمسكّن لنوبات الألم الشديد التي عانت منها واستمرت بعد العمليات، على ألا تتجاوز فترة تناول العقار أكثر من شهرين. لكن ذلك لم يحدث.

تروي أمل أنه "كان للإصابة تأثير سلبي كبير على حالتي النفسية. أصبت بالاكتئاب وبتّ أتسبب بمشاكل في المنزل. بعد فترة بدأت أشعر بأنّ مزاجي أصبح أفضل. لم أعلم بداية أنه أحد التأثيرات الجانبية للمسكّن، لكنّني سرعان ما أدركت هذا عندما زدت الجرعات. وعندما طلب الطبيب التوقف عن تناوله، رحت أدّعي الألم حتى يستمر بوصفه لي. تجاوب معي في المرة الأولى، لكنه استشعر الخدعة في الثانية. وقال لي إن جسمي بدأ يتعوّد على العقار وبأني دخلت في حالة من الإدمان".

أمل ليست الوحيدة التي وقعت في فخ إدمان هذا العقار، إذ بدأ زوجها بتناوله أيضاً. تقول: "شعرنا بداية بأن علاقتنا العاطفية وحتى الجنسية بدأت تتحسّن، في حين أصبح مزاجنا أفضل. زوجي قاوم الإقلاع عنه أكثر مني، وراح يبحث عن طرق للحصول عليه". تضيف: "بعد فترة تغيّرت طباعه وأصبحت قدرته على تحمل المسؤولية ضعيفة. كذلك لم يعد يعير الأطفال أي اهتمام عاطفي، وأصبح سلبياً في العمل على الرغم من أن حالتنا المادية كانت تسوء تدريجياً". وتتابع: "شعرت بأن عائلتي على حافة الانهيار، فحسمت أمري ونويت الإقلاع عنه. أقنعت زوجي بأن نقوم بذلك معاً من أجل أطفالنا. مررت بأصعب لحظات حياتي، وصرت أعاني من أعراض جسدية نفسية كالدوار والهذيان والكوابيس والتعرّق وغيرها. أما اليوم، فأنا أفضل. لكن زوجي عانى أكثر. وكلما توقف عاد إليه من جديد".

وتكشف مهنا عن واحد من أغرب مظاهر إدمان الترامادول بين السوريين، إذ "دفع الجوع عدداً من الفقراء إلى تعاطي الترامادول حتى لا يشعرون بالجوع. وعند سؤالهم عن سبب صرف المال لشراء العقار بدلاً من الطعام، يقولون إن الدواء يُهرّب من المخيمات ويباع بأسعار رخيصة جداً. لكن تبيّن لنا لاحقاً أن ثمّة من يطحن العقار المنتهي الصلاحية ويخلطه مع مواد أخرى ثم يبيعه لهم".

اقرأ أيضاً: آثار الصدمات النفسيّة تلاحق اللاجئين السوريّين