الوفرة المريبة

11 يناير 2016
وفرة ما يُستهلك من دون اختيار سبباً للتعاسة (Getty)
+ الخط -

تكاد عبارة "لا تُصغِ إلى حكمة قديمة" لأنها قديمة، تكون النصيحة الوحيدة هذه الأيام. المعيار الذي تُقاس عليه الوجهة الحالية لمجتمع الجماهير، غدا فاسداً، فهذا عصر الاستفادة من كل شيء، ومتابعة كل طارئ، والخوض في أي شأن.

آلة العرض، سياسية كانت أم اقتصادية، تكفل تقديم التوجيه والاختيار، وما عليك سوى انتظار العلامة الفارقة واللحظة المناسبة والخبير الفصيح. تفويت الفرصة علامة على الغباء، واللامبالاة محلّ رفض، والبطء الإنساني أو التردّد محلّ وصم بالتخلف. أما وقت الانتظار هذا، الذي يمكن أن يكون فناً فردياً خاصاً، إذا كان ثمة وقت لترفٍ كهذا، فليس سوى حيّزٍ لتمضية الوقت كيفما كان.

سماتٌ كهذه تتحول بسرعة إلى قانون خفيّ يتحكّم بخيارات لم يعد يُتاح لأصحابها أن يقرروا ما إذا كانت الاستفادة مما يُعرَض ضرورية أم لا، وما إذا كانت الحاجة إليها حقيقية بالفعل. حيث تقلّ فرصة الاختيار أمام نمطٍ كهذا، تزداد قدرات آليّة على التغلغل في طرق الحياة اليومية.

ربما تدلّنا وفرة المجالات التقنية المتاحة اليوم، وما تقدمه من منتوجات كثيرة، إلى كيفية تنازع التقدم مع التخلف. لقد تطورت مناهج الاستثمار الآلي من دون إيلاء اهتمام لموضوع المنتج نفسه، الذي غدا محض طرفٍ تابعٍ. لا يتعلق الأمر بالمنتج المادي وحسب، إذ إن الحالة نفسها تنطبق على غيره، طالما كانت الصفة السيّدة هي الإنتاجية والمردود.

ما يقع خارج هذا النمط يعتبر رجعياً ومتخلفاً، وما يندمج معه يُنظَر إليه كعلامة على المعاصَرَة. "فاللهفة والانبهار اللذان يدفعان باستمرار لاستهلاك المنتوجات التقنية الأكثر جِدّة، مثلاً، لا يجعلان المرء فقط غير مكترث بما يحصل عليه، بل يجعلانه يقبل بالبضاعة الرديئة وينساق إلى الغباء المبرمج". يكاد المنتَجُ هو من يختار اليد التي تظن أنها مالكة نفسها. تثبّت هذه الحالة الرداءة الحاصلة وتعرضها مقنَّعة على نحو يظهرها جِدّ حديثة ورفيعة الشأن.

ما يُعرَض بوفرة يمحو ما لا يُباع، إذ لم يعد ثمة ما لا يخطر على بال بعد الآن. هذا هو مقتضى التطور الحتمي الضاغط، التزاحم والتبعية والوقوف في صف واحد طويل تكاد تحلّ في كل مكان محلَّ سدّ الحاجة المعقولة والعادية. يكاد عدم اهتمامنا بما كان من مدة وجيزة يجعلنا نفضّل عليه أي شيء آخر ربما لا يختلف عنه في شيء، إلا أنه الأكثر جِدّة وعصريّة.

ها هنا الفورية تغلب الاختيار، حتى يغدو الغرق في ما هو آني سمة مهيمنة، حيث لا يتاح وقت للبطء أو التردّد. لقد صارت وفرة ما يُستهلك من دون اختيار سبباً لتعاسة لا حدَّ لها. إنها تجعل مُحالاً أن يجد الواحد منّا وجهته الصحيحة.

اقرأ أيضاً: سكّان الصور