تبحث تونس عن تحقيق معادلة مجتمعية صعبة في واقع صحي متأزم، تقوم على إنصاف المرضى والأطباء معاً عند وقوع الأخطاء الطبية التي تزايد عددها، وذلك عن طريق حماية حقوق المرضى وزيادة ضمانات الأطباء
تحتل قضية الأخطاء والتجاوزات الطبية صدارة اهتمامات التونسيين، المقبلين على المستشفيات الحكومية والمصحات الخاصة بهدف تلقي العلاج والخضوع للعمليات الجراحية وغيرها من الإجراءات الطبية المختلفة. وتزداد مخاوف المرضى وهواجسهم من التوجه - المنطقي بالنسبة للمواطنين في أيّ دولة من الدول- إلى تلك المنشآت لتلقي العلاج بعد تكرار وقوع الحوادث الطبية والتجاوزات التي هزت المجتمع الأهلي، وحركت منظمات المجتمع المدني، فتحولت إلى قضية رأي عام قضت على ما بقي من ثقة في قطاع الصحة، وساهمت في زعزعة صورة الطبيب لدى المواطن.
تختلف الأرقام، في ظلّ غياب الإحصاءات الرسمية، حول التجاوزات والأخطاء الطبية، لكنّ الأرقام التي أعلنت عنها منظمات غير حكومية مختصة في الدفاع عن ضحايا الأخطاء الطبية مفزعة وتبعث على الحيرة والخوف. فقد كشفت تقارير متطابقة أنّ عدد الأخطاء الطبية يتراوح بين 10 آلاف خطأ سنوياً و15 ألف خطأ، في وقت تغيب فيه أيّ أرقام من وزارة الصحة، لاعتبارات ترى أنّ تصنيف الأخطاء والتجاوزات والجرائم الطبية وجبر الضرر يعود للسلطة القضائية، وليس لها.
في هذا الإطار، يؤكد رئيس "الجمعية التونسية لمساعدة ضحايا الأخطاء الطبية والحوادث البدنية" صابر بن عمار، في حديث إلى "العربي الجديد" أنّ عدد الأخطاء الطبية في تونس يناهز 15 ألف حالة سنوياً، مشيراً إلى أنّ غالبية الضحايا هم من النساء الحوامل اللواتي يتوفين خلال عملية الولادة، داعيا السلطات إلى كشف الأرقام الحقيقية كاملة. يتابع بن عمار، وهو خبير في القانون الصحي، أنّ تونس تجاوزت مفهوم الخطأ الطبي إلى الجريمة الطبية المنظمة، متهماً لوبيات نافذة وعصابات تتحكم في قطاع الصحة وفي قطاع الأدوية، على حد وصفه. ويكشف بن عمار أنّ النساء الحوامل يمثلن أكبر نسبة من ضحايا الأخطاء الطبية بنسبة تقارب 40 في المائة، بالإضافة إلى الرضع والأطفال، مشيراً إلى أنّ اختصاصات طبية تشهد ارتفاعاً مفزعاً في جرائم طبية على غرار طب الرضع والولادة وطب القلب والشرايين، إلى جانب أخطاء البنج.
مآسٍ متنوعة
شهدت تونس قضايا وحوادث في مستشفيات ومصحات هزت الرأي العام والمجتمع وبقيت عالقة كذكريات أليمة في المخيال الشعبي. لم يتجاوز التونسيون بعد مأساة موت 13 رضيعاً في مارس/ آذار الماضي في مستشفى الرضع بالرابطة، في العاصمة تونس، لتضاف إليها وفاة سبعة آخرين خلال شهر يونيو/ حزيران الماضي في مستشفى بمحافظة نابل. انتهت الحادثة الأولى باستقالة وزير الصحة عبد الرؤوف الشريف وإقالة عدد من المسؤولين في وزارة الصحة بينما مرت الحادثة الثانية في نابل من دون تحقيق أو تبرير.
وأثارت قضية الرضّع في مستشفى العاصمة، الرأي العام، إذ سعى التونسيون للوقوف على الأسباب الحقيقية لتردي الصحة العمومية وتكرار التجاوزات والخروقات في المستشفيات الحكومية، لكن من دون نتيجة تذكر.
ولم تكن مأساة الرضّع هي الأولى التي تهز المجتمع في تونس، فقد شهدت البلاد عام 2016، في عهد الوزير الأسبق سعيد العايدي، قضية اللوالب القلبية منتهية الصلاحية، والتي خلفت أكثر من 1300 متضرر، بحسب "الجمعية التونسية لمساعدة ضحايا الأخطاء الطبية والحوادث البدنية".
كذلك، شهدت تونس في العامين 2014 و2015، بروزاً لقضية البنج الفاسد، إذ تلقت السلطات القضائية عشرات القضايا لحالات وفاة وإعاقات دائمة لمرضى وقع تخديرهم موضعياً بمادة مخدرة منتهية الصلاحية يجري استيرادها، إلى البلاد عبر شخصيات نافذة.
إعادة الثقة
تبحث وزارة الصحة عن التعجيل في سنّ إطار قانوني يضمن حقوق المرضى ويحدد المسؤولية الطبية بعدما استشارت مختلف أسلاك مهنيي قطاع الصحة والجمعيات والمنظمات الطبية التي تتفق على هذا الطلب، والتي نفذت في دورها سلسلة من التحركات الاحتجاجية والإضرابات العامة خلال السنوات الأخيرة على خلفية تعدد حالات توقيف عاملين في قطاع الصحة بتهمة ارتكاب خطأ طبي.
وشرع البرلمان التونسي في مناقشة القانون الجديد الذي أعدته وزارة الصحة. وفي هذا الإطار، يقول الدكتور سهيل العلويني، رئيس لجنة الصحة والشؤون الاجتماعية في البرلمان، لـ"العربي الجديد" إنّ هناك إرادة لتمرير مشروع القانون المتعلق بحقوق المرضى والمسؤولية الطبية الذي استمرت مداولته ثلاث سنوات، معبراً عن أمله في أن تجري المصادقة عليه قبل انتهاء الدورة البرلمانية الحالية. ويشير إلى أنّ هذا المشروع يحظى باهتمام جميع الأطراف بالرغم من الملاحظات.
ويلفت العلويني إلى أنّ ملاحظات المهنيين والأطباء وجمعيات الصحة وعمادة الأطباء تتمثل في اختلافات إجرائية وأخرى تقنية يمكن تجاوزها، مشيراً إلى أنّ هذه الملاحظات تتمثل في المطالبة بعدم التمييز بين القطاعين الصحي الخاص والحكومي بالنسبة لتحديد مسؤولية الأطباء، مشدداً على أهمية أن يدخل جميع الأطباء تحت طائلة هذا القانون.
يضيف العلويني أنّ هناك تطوراً تشريعياً وحلولاً من شأنها أن تتقدم بقطاع الصحة في تونس وتتجاوز العديد من المشاكل، بين المرضى والأطباء، على غرار صندوق التعويضات، ولجان المصالحة الرضائية، ومرصد التجاوزات والأخطاء الطبية. ويبين أنّه سيجري العمل على إدراج اعتمادات صندوق التعويضات ضمن موازنة الدولة للعام 2020 حتى يتسنى للصندوق الشروع بعمليات التعويض للمتضررين إلى جانب النقاشات حول مصادر أخرى لتغذيته وتمويله. يضيف أنّ مرصد التجاوزات الذي تدور حوله نقاشات حول إعطائه الاستقلالية اللازمة للقيام بدوره، سيعزز الثقة بين المريض والطبيب وسيعيد ثقة المواطن في الصحة العمومية.
خطوة مهمة
تطالب النائب عن حزب النهضة، جميلة دبش، أيضا، في حديثها إلى "العربي الجديد" بضرورة توفير الحماية اللازمة للمبلغين عن الفساد والأخطاء والتجاوزات، خصوصاً العاملين في قطاع الصحة، وضمان استقلالية المرصد الرقابي الذي سيتلقى الشكاوى والبلاغات، وضمان الولوج مباشرة إلى هذا المرصد من دون حواجز أو تضييق إداري. تشير إلى أنّ الهدف في الأساس ليس العقاب، إنّما عدم تكرار الخطأ الطبي، وإعادة الجودة إلى الخدمات الطبية، والقضاء على الفساد والتجاوزات في قطاع الصحة، وإعادة بناء جسور الثقة بين المريض والطبيب والمستشفى العمومي.
طرح ممثلو الهياكل المهنية والنقابية والجمعيات ذات العلاقة بقطاع الصحة، خلال حضورهم، الأسبوع الماضي، ندوة في البرلمان التونسي، أهمية هذا القانون في تجاوز غياب الإطار القانوني المنظم للمسؤولية الطبية في تونس، والذي تسبب في عدم شعور الممارسين للمهنة الطبية بالارتياح أثناء أدائهم مهامهم، وتكرار الاعتداءات على الأطباء والممرضيين والعاملين شبه الطبيين، وتسبب غياب قانون يحمي المهنيين في فرار الأطباء والكوادر إلى الخارج، وهجرهم مؤسسات الصحة العامة.
وشدّد الأطباء والممرضون الحاضرون على أنّ هذا المشروع يعدّ خطوة مهمة للنهوض بجودة الخدمات وضمان حقوق المرضى في التعويض عن الأخطاء الطبية. وجرت الإشارة، من جهة أخرى، إلى أنّ نسبة 80 في المائة من القضايا المرفوعة من قبل المواطنين للمطالبة بتعويضات مالية تمثل حوادث طبية، في حين لا تتجاوز نسبة الأخطاء الطبية 20 في المائة من مجموعها. كذلك، أكد الأطباء الحاضرون أنّ المشروع المتعلق بحقوق المرضى والمسؤولية الطبية يلزم القضاء بالاستعانة بالاختبار لتأكيد فرضية حدوث الخطأ الطبي أو عدم حدوثه، مع الإشارة إلى أنّ القانون العام كان في السابق يترك الباب للقضاة للاجتهاد في اللجوء إلى الاختبار أو عدمه.
ودعا ممثلو قطاع الصحة الخاص إلى ضرورة إشراكهم في لجان المصالحة الرضائية، مقترحين إقرار تعويضات مالية طبقاً لسقف محدد، لئلا يجري تجاوزه من طرف لجان المصالحة، ومن أجل ضمان توازن صندوق تعويضات الأخطاء الطبية المزمع إدراجه في مشروع قانون المالية للعام المقبل، داعين إلى ضبط موارده المالية. وجرى في الندوة التأكيد على ضرورة مساهمة الدولة في تمويل عمليات جبر الضرر المتعلقة بالأخطاء الطبية.