محمدٌ ولد إشدو: موريتانيا فتحت باب ثورات الربيع العربي

13 مايو 2015
أؤمن بالحق وبعدالة قضايا المظلومين والمهمشين والفقراء (العربي الجديد)
+ الخط -


تاريخه النضالي جعله أحد أبرز المحامين في موريتانيا، لكن الأمر كلّفه مواجهة حملات شرسة على خلفيّة مواقفه الجريئة والمناصرة لبعض المتهمين في قضايا أثارت جدالاً في الشارع الموريتاني، وعلى سبيل المثال قضية كاتب المقال المسيء للنبي محمد. هو محمدٌ ولد إشدو الذي جمع بين السياسة والأدب والمحاماة، وخصص حياته لنصرة قضايا ضعفاء بلاده والمَقصيّين فيها وللوقوف إلى جانب المظلومين. وفي ما يأتي، نص حديث خصّ المناضل الموريتاني "العربي الجديد" به.

- كيف ترى مستوى الحريات في البلاد؟
للحديث عن مستوى الحريات في موريتانيا، يجب التذكير بادئ ذي بدء بأن الموريتانيين هم أول من فجّر - على طريقتهم - الثورة على القهر والهدر والطغيان، يوم كسروا في الثالث من أغسطس/آب 2005 أضعف حلقات منظومة القهر الأميركية الصهيونية الرجعية التي سحقت العرب والمسلمين منذ معاهدة كامب ديفيد، فأيقظوا بفعلهم المفاجئ شعوب المنطقة، وبرهنوا قوة الشعوب ووهن حلف العدو وعدم جدوى الاحتماء في كنفه. ثم قاموا بإصلاحات كبرى، ومنها على سبيل المثال: تحرير سجناء الرأي وإغلاق السجون، وإطلاق الحريات العامة إلى أبعد الحدود، وكنس معظم القوانين القمعية لا سيما تلك التي أضيفت إلى الدستور لتشريع الاحتفاظ بجميع القوانين القمعية الموروثة عن الحقبة العسكرية الاستثنائية، بالإضافة إلى مادة قانون الصحافة التي تجيز مصادرة الصحف ووقفها بجرة قلم، وتقليص المأمورية الرئاسية إلى خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، وحظر تعديل الدستور في مادته المتعلقة بالمأمورية، وإقامة مؤسسة للمعارضة، وإزاحة مدن الصفيح، وتبني التمييز الإيجابي تجاه النساء والفئات الفقيرة في المجتمع، ومحاربة الفساد والبطالة ونهب الثروة السمكية واختلاس المال العام، وإلغاء عقوبة الحبس من قانون حرية الصحافة، وإقفال السفارة الإسرائيلية.

- تقصد أن تغيير الحكم في انقلاب 2005 أحدث ثورة في الحريات العامة؟
صحيح، وهنا أؤكد مسألتين أساسيتين: أولاهما أن الحرية والديمقراطية ليستا هدفاً، بل وسيلة لبلوغ الشرط الإنساني الكريم والتمتع بحق الحياة من رزق وسكن وملبس ودواء وتعليم. وبدون ذلك، لا يكون للحرية والديمقراطية معنى. وثانيتهما أن من شروط تحسن مستوى الحريات العامة والديمقراطية، كبح "حرية" أعداء الحرية والديمقراطية. وهم أولئك الذين يسعون في الأرض فساداً ويعملون على زعزعة أمن البلاد وتخريب السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والاقتصاد. فحرية هؤلاء الأعداء المتلونين تنتهي عندما تبدأ حدود حرية الشعب أو ينال من حرية الوطن.
ومما لا شك فيه أن سوء استغلال الحرية وانتشار الفوضى وتكاثر الأدعياء في مختلف المجالات (الصحافة، والأحزاب، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني) وقد اختلط الحابل بالنابل والطالح بالصالح والغث بالسمين ورتعت عصابات الطابور الخامس، يشكل خطراً حقيقياً على الحريات وعلى مسيرة الإصلاح في البلاد. وإذا لم تتم غربلة وتصفية وتصحيح هذه المجالات الأساسية، فلن تنهض شروط قيام مؤسسات جمهورية قادرة على حماية وصيانة وتنمية هذه المكاسب الثمينة التي رفعت رؤوسنا وألهمت جماهير عربية وإفريقية واسعة كيف تتحرك وكيف تبني وكيف تنتصر.

- في القانون الموريتاني ثمّة أحكام متجاوزة كقطع اليد والرجم والجلد. كيف تطوَّرت هنا منظومة القوانين والأحكام؟
هذه الأحكام يزيد عمرها على ثلاثة عقود وقد سُنّت في فترة عسكرية خضع الحاكم فيها لإملاءات تيارات متزمتة، كان في أمسّ الحاجة إلى دعمها في مواجهة الغضب الشعبي الجارف. وبتجاوز ذلك الحاكم وأمثاله وتلك التيارات، كان تجاوز تلك الأحكام ووقف تطبيقها. وسوف يصار إلى تطوير وإصلاح منظومة القوانين والأحكام، وملاءمتها مع الواقع المعاش في البلد، ومع المصالح المرسلة لا محالة، خصوصاً إذا علمنا أن الوسطية والاعتدال والتسامح هي منهج المسلمين الموريتانيين من دون إفراط أو تفريط. وللوسطية الموريتانية أئمة راسخون في العلم ورثوها عمن شرّعوها، فرسخوها وحصنوها وبثوها.

- لماذا لم تعد أحكام الإعدام تنفّذ في موريتانيا؟ وهل ثمة اتجاه إلى إلغاء هذه العقوبة؟
نعم ثمة اتجاه إلى إلغاء عقوبة الإعدام. وإن كنت شخصياً أناصر هذا الاتجاه، لأسباب من بينها ضعف حصافة المنظومة القضائية الموريتانية وعدم عصمتها من الخطأ، أرى الاحتفاظ بتنفيذ عقوبة الإعدام في ثلاثة مجالات هي: جرائم الإرهاب وتجارة المخدرات والاغتصاب.

ـ تسارع إلى الترافع عن المظلومين والمتهمين في قضايا الرأي. ما هي أشهر القضايا التي رافعت فيها؟
كان ذلك قبل انتفاضة الشعب والجيش عام 2005، عندما كانت تجري اعتقالات ومحاكمات دورية تأتي على الجميع كفصول السنة الأربعة. وقد وصل الأمر بالكاتب المتميز حبيب ولد محفوظ - رحمه الله - إلى القول إن كل مواطن ينتظر دوره من السجن والمحاكمة: البعثيون، والناصريون، والقوميون الزنوج، وزعماء أحزاب المعارضة، وبعض الحقوقيين، والإسلاميون، وقادة انقلاب 8 يونيو، والمرشحون لرئاسيات 1997 و2003.
لم أكن وحيدا، بل كانت معي كوكبة من خيرة المحامين الموريتانيين.

اقرأ أيضاً: 3 أسئلة إلى مريم بنت الشيخ 

ـ هل الضغوط الشعبية هي التي دفعتك إلى التراجع عن الدفاع عن كاتب المقال المسيء للنبي؟
كلا، بل ضغوط حلف عفوي أبرم في ليلة ما بين بعض فصائل الاستخبارات وبعض المتشددين الذين ظنوا أنهم، بتحريض ممن يسمون أنفسهم "أحباب الرسول" وهم جماعة تنظمها وتقودها استخبارات داخلية وخارجية، قادرون في حشدهم "الربيعي" على تعبئة الشارع ضد النظام، وعلى جعل صاحب المقال المسيء "بوعزيزي" يوصلهم إلى السلطة.
لقد أعلنت ان الرجل تاب، ومن تاب تاب الله عليه. والقانون الموريتاني صريح في وجوب التأكد من توبته وإطلاق سراحه بعد إجراءات محددة، وأنه لا يحتاج إلى مؤازرتي ولا إلى دفاعي عنه.
وعلى الرغم من ذلك، فقد عقدوا مهرجانات ضدي. وأنا لا أعتبر ذلك ضغطاً شعبياً بل ضغطاً بوليسياً غوغائياً سياسياً، جاء بعدما أعلنتُ عن عدم دفاعي عن المتهم، حتى لا تفوت الفرصة. وقد اعتذر لي بعض من جماعة الإخوان وزارني بعض قادتها مشكورين.

ـ دافعت عن المسترقين. ماذا يمكن القول عن قضية العبودية وما يثار حولها من نقاش؟
لم يكن دفاعي عن المسترقين مستجدّاً، بل يعود إلى يوم كان الرق حقيقياً منتشراً في المجتمع البدوي في بداية ستينيات القرن الماضي. لقد تبنت حركة الكادحين التي أنتمي إليها محاربة الرق، واستطاعت القضاء عليه بفضل نشر الوعي بين الأرقاء وأسيادهم وقيام بؤر صناعية في البلاد، مثل شركات التنقيب في المناجم وتعبيد الطرقات والبناء التي استوعبت الفارين من جحيم الرق ومن تواطؤ سلطات الدولة المحبذة للحرية ومن الجفاف الذي ضرب المنطقة الذي أرغم الغالبية (عبيد وأسياد) على النزوح إلى المدينة وإعمار مدن الصفيح.
أما ما يجري الحديث عنه اليوم وتتناوله الخطب وتنظم المسيرات له وتسنّ القوانين حوله، فهو - بغض النظر عن بعض الجهود الاجتماعية الإيجابية ضد بعض الرواسب والمخلفات - دعايات ومحاولات يقوم بها بعض الأحزاب السياسية لكسب ود شريحة الحراطين والحصول على أصواتها في الانتخابات. ويستغلها بعض الشباب الطامحون إلى الهجرة إلى الغرب أو الطامعون في تعيين في مناصب رسمية أو تمويل من قبل منظمات "حقوقية" مشبوهة لها علاقات استعمارية صهيونية. اليوم، لا عبودية في موريتانيا إطلاقاً، بل يوجد تهميش ضد فصيلة الحراطين له أسبابه وله طرق علاجه التي بدأت تأخذ طريقها إلى أصحابها. وعلى سبيل المثال، إعمار قراهم وتوفير أسباب الحياة الكريمة فيها وانتهاج سياسة تمييز إيجابي تجاههم. وقد بينتُ ذلك وأوضحته في كتابَيّ "أزمة الحكم في موريتانيا" و"إلى أحرار موريتانيا"، الأمر الذي وضع النقاط على الحروف. لكنه جلب لي عداء المتاجرين بمآسي الآخرين والمتسلقين على أكتاف المحرومين.

ـ من جهة أخرى، ماذا يمثل الشعر بالنسبة لك؟ وهل يواكب الشعر الموريتاني المتغيرات في الواقع الحياتي؟
الشعر في نظري هو أعذب لحن عزفه الإنسان على هذا الكوكب. وعما إذا كان الشعر الموريتاني يواكب المتغيرات في الواقع الحياتي، ربما يفعل. وإذا حدث، فلعله تعارج ولهاث. وذلك بسبب كثرة أدعياء الشعر والألقاب، وما يثقل به "اتحاد الكتاب والأدباء" كاهل الشعر من أوزار وتبعية للجهات المانحة.

ـ بين المحاماة والشعر والسياسة، أي الميادين تختار؟
أختارها جميعها. لقد منحتني السياسة صلابة الموقف والإيمان بالحق وبعدالة قضايا المظلومين والمهمشين والفقراء التي تبنيتها منذ نعومة أظفاري. ومنحني الشعر الإلهام وجعلتني المحاماة أتبوأ عرش الدفاع وسلحتني بالقانون.

الأديب والحقوقي في سطور

وُلد محمدٌ ولد إشدو في عام 1944، ودرس القرآن واللغة العربية وآدابها في مدارس دينية بعدما رفض والده أن يلتحق بالتعليم العصري الذي أقامه الاستعمار. عندما أنهى دراسته في المحاضر الدينية، انتقل إلى السنغال للعمل في متجر والده. كان لا يزال صبياً، وراح يتردد على مكتبة مفتشية التعليم العربي هناك. وعندما لاحظ والده تعلقه بالدراسة، جعله يكمل تعليمه النظامي. وفي النهاية نال إجازة بالحقوق من تونس. وأصدر مؤلفات عدّة، أبرزها "أغاني الوطن" و"أزمة الحكم في موريتانيا" و"حتى لا نركع".

اقرأ أيضاً: أحمد ولد السالم: التراتبيّة الاجتماعيّة تخنق موريتانيا