مهنة الصيد في غزة أخطر المهن إذ تجبر صاحبها على مواجهة زوارق الاحتلال الإسرائيلي وبنادقه. لكنّ عائلة بكر، تعتبر الصيد أسلوب حياة بالرغم من المخاطر
داخل حوض ميناء غزة، يتجمع غالبية أفراد عائلة بكر، المعروفين بامتهان صيد السمك عبر الأجيال، للعمل منذ ساعات الصباح الأولى. صحيح أنّ الأسماك التي أخرجوها بشباكهم قليلة هذا النهار، لكنّهم لم ينقطعوا يوماً عن الصيد، ويعملون في جو عائلي إلى جانب بعض الصيادين من عائلات أخرى. يرافقهم في كثير من المرات أطفالهم ليساعدوهم في غزل الشباك.
كامل بكر (أبو طلعت) يبلغ من العمر 58 عاماً، ويعمل في الصيد منذ كان في الخامسة عشرة. لديه أربعة أبناء وسبع بنات، وجميع أبنائه الذكور يعملون في البحر، ممتهنين الصيد نشاطاً أساسياً يعتاشون منه كوالدهم، بل يقول إنّ عدد أفراد العائلة العاملين في مهنة الصيد هو نحو 500 صياد.
يشير كامل بكر إلى أنّ انتهاكات إسرائيل بحق الصيادين في غزة بدأت في سبعينيات القرن الماضي، مع احتلالها القطاع، فكانت تعاقب الصيادين الذين يحاولون الدخول للصيد في أعماق البحر بالحجز لمدة شهر أو شهرين إلى جانب الغرامة المالية، وكانت تتهم الصيادين بجريمة "قطع الحدود" في ذلك الوقت، كما تنصب الزوارق الحربية على بعد أميال لمراقبة حركة الصيادين.
لكن، عندما جاءت السلطة الفلسطينية بدأت في حماية الصيادين في إطار اتفاقية أوسلو عام 1993، وعلى أثرها تقلصت أعداد الزوارق الحربية الإسرائيلية، وفي حال اعتقال أيّ صياد غزي في تلك الفترة كان يجري ترحيله إلى ميناء أسدود في الداخل الفلسطيني ويتلقى تحذيراً يعاد بعده إلى غزة. لكن منذ 12 عاماً، باتت الانتهاكات في حق الصيادين خطيرة وقد تكلفهم أرواحهم. يقول أبو طلعت لـ"العربي الجديد": "في البداية كانوا يطلبون منا تصاريح الصيد وهوياتنا، ثم يعيدون إلينا التصاريح ونعود، لكن اليوم قبل أن يصل الصياد على بعد 5 أميال يبدأ إطلاق النار باتجاهه، وينادون علينا: مخرب ومهرب. وتصيب الطلقات المحركات وأطراف المراكب. هكذا، بات الصيادون أكثر الناس تضرراً من الحصار الإسرائيلي على غزة".
يعود سبب وراثة مهنة الصيد في عائلة بكر كما يوضح كامل، إلى الجد الكبير لهم وهو بكر بكر، الذين كان يعمل في الصيد بغزة قبل عام 1935، وكان لديه ستة أبناء، من بينهم اثنان انتقلا للعيش في مدينة يافا المحتلة قبل عام 1948 وعملا هناك صيادين أيضاً، لكن، هجّرا مع عائلتيهما في النكبة. يضيف كامل: "الصيد هو أكل عيشنا وحياتنا. تزوجنا وترعرعنا وسط المياه المالحة. أصيب ابني محمد (24 عاماً) بعدما احترق مركبي في عدوان 2014، نتيجة إصابته بصاروخ مباشر، وأصيبت بالقرب منه تسعة قوارب، لكن حتى اليوم، لم أحصل على تعويض، وحولته إلى قارب سياحي إلى جانب الصيد على مسافة أقل من 5 أميال، للبعد عن الخطر".
قدم الصيادون من آل بكر شهيدين وأصيب من بين أفرادها أكثر من 50 بإصابات ما بين بالغة ومتوسطة. كذلك، استشهد أربعة أطفال منها وهم يلعبون كرة القدم أمام الميناء خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، إلى جانب 15 شهيداً منذ النكبة. اعتقل من العائلة حتى الآن، نحو مائة صياد بعضهم تعرض للاعتقال المتكرر، كان آخرهم في الثامن من مارس/ آذار الماضي، عندما اعتقلت بحرية الاحتلال أربعة شبان من صيادي العائلة بعدما أطلقت النار عليهم وهاجمت مراكبهم حتى حاصرتهم واعتقلتهم على متن زورق بحري، ثم أفرج عنهم في نهاية اليوم بعد إصابتهم بالعيارات المطاطية، كما تعرضوا للاعتداء بالضرب المبرح.
جمال بكر (محمد الحجار) |
من جهته، تعرض مركب جمال بكر (56 عاماً) للدمار خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، وظن خلالها أنّ نجله خضر استشهد بعدما هرب الصيادون الذين كانوا يرافقونه في رحلة الصيد، وافتقدوه خلال اشتداد إطلاق النار باتجاههم. يقول جمال بكر لـ"العربي الجديد": "كنت أجلس على الشاطئ في زمن الحرب. فنحن لا نعرف حرباً أو أيّ ظرف يمنعنا عن العمل، فانتشرت أخبار أنّ ابني استشهد، ولم أهدأ منذ الساعة الثامنة صباحاً حتى الرابعة والنصف مساء، حين جاءني اتصال وتأكدت أنّ خضر حيّ. في اليوم نفسه قصف الاحتلال الغرفة الخاصة بي في ميناء غزة وداخلها جميع أغراض الصيد والماكينات والمعدات التي دفعت فيها عشرات آلاف الدولارات طوال حياتي". يعتبر جمال بكر أنّهم كعائلة بالرغم من كل ما يتعرضون له من انتهاكات، لا يستطيعون ترك البحر: "نحن مثل السمكة تموت إن خرجت من البحر".
أما مهدي بكر (40 عاماً)، فيعمل رفقة أطفاله الأربعة في المياه القريبة. يراقب عن بعد زوارق الاحتلال، وفي كثير من المرات يتراجع مسرعاً خشية من إطلاق النار المباشر منهم. ينصاع مهدي لأوامر الاحتلال، حفاظاً على حياته وحياة الصيادين الذين على متن المركب، بعد أن تبدأ الزوارق بإطلاق النار عليهم لإرهابهم، كما يقول لـ"العربي الجديد".