جاك لانغ مدير معهد العالم العربي في باريس: فرادة معرض "مسيحيو الشرق"

25 سبتمبر 2017
هذا المعرض ليس له أيّ هدف سياسي (العربي الجديد)
+ الخط -

تحت عنوان "مسيحيّو الشرق، 2000 سنة من التاريخ"، ينظّم معهد العالم العربي في باريس بالتعاون مع مؤسسة "لوفر دوريان" معرضاً يُفتتح غداً الثلاثاء في السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول الجاري. عشيّة الافتتاح، التقت "العربي الجديد" رئيس المعهد جاك لانغ، فكان حديث شمل مواضيع متنوّعة.

في فبراير/ شباط من عام 1980، تأسّس معهد العالم العربي في باريس، قبل أن يُستكمل بصرح شُيّد في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1987 في قلب العاصمة الفرنسية، بناءً على اقتراح قدّمه جاك لانغ السياسي الاشتراكي الفرنسي والنائب والوزير الأسبق. ولانغ كان قد عُيّن رئيساً للمعهد في عام 2013 في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند. يُذكر أنّ ثلاثين عاماً مرّت على تشييد الصرح الثقافي والفكري والفنّي الذي هدف منذ بداياته إلى التقريب ما بين العالم العربي وأوروبا.

- ثلاثون عاماً مرّت على تشييد صرح معهد العالم العربي في باريس. ماذا تقولون بالمناسبة؟

ثلاثون عاماً، هذا يعني أنّه ما زال في سنّ الشباب، وهذه هي سنّ تأكيد الأشياء. وهذا المعهد الفريد من نوعه في العالم، ابتُكر قَبل أكثر من ثلاثين عاماً، لنقل قَبل أكثر من أربعين عاماً، من قِبل الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان - لم يكن في منصبه حينها - والعاهل السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز. وكانت فكرتهما تقول بتشييد جسر بين العالم العربي والدول الأوروبية، ثم راحت تتطوّر. وحين أصبحتُ وزيراً للثقافة في ولاية الرئيس فرنسوا ميتران، قدّمتُ له هذا المشروع وقلت له إنّه من الممكن تخيّل صرح جدير بتلك الفكرة الجميلة. وكان علينا أن نجد مكاناً رائعاً، فكان على مقربة من نهر السين، غير بعيد عن كاتدرائية نوتردام دو باري وعن مسجد باريس الكبير. وقد استعنّا بطواقم جديدة من مهندسين معماريين شباب لم يكونوا معروفين بصورة كبيرة حينها. أشهرهم اليوم يُدعى جان نوفيل إلى جانب وكالة الهندسة "أرشيتكتور - ستوديو".
وهذا الصرح التاريخي أثار مشاعرنا العميقة، على خلفيّة ارتباطه بالتاريخ المعماري العربي إلى جانب حداثته. وقد افتتحه الرئيس ميتران في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1987، وقررنا الاحتفال بذكرى تلك الولادة من خلال فعاليات عدّة.
في ذلك الحين، أردنا أن تكون المشربيات تقليدية ومعاصرة في وقت واحد، لكنّها لم تعمل مثلما كنّا نأمل، فقد تجمّدت حركتها. وكانت الفكرة العبقرية أن تفتح تلك المشربيات بالتناسق مع الضوء، مثلما هي تقريباً حال حدقة العين أو عدسة آلة التصوير التقليدية. وحين أصبحتُ رئيساً للمعهد قبل أربعة أعوام، عاهدت نفسي أن أذهب بالحلم حتى النهاية. فبحثنا عن تمويل من هنا وهناك، واستعنّا بخبرات مهندسين وتقنيين للعثور على حلّ. ونجحت المهمة، ويمكنك أن ترى بنفسك كيف أنّ المشربيات تفتح وتغلق بطريقة سحرية.
ومن بين فعاليات المعهد الكبرى الخاصة بالذكرى، الاحتفال بتلك المشربيات في 29 سبتمبر/ أيلول الجاري، في احتفال كبير تُضاء خلاله الواجهة بالتزامن مع عزف موسيقي. ثمّ تتبع ذلك أنشطة أخرى تستمرّ خلال سبتمبر وأكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني. وبالتأكيد لا ننسى موعدنا مع المعرض الكبير حول تاريخ المسيحية في الشرق لمدّة 2000 عام.

- لماذا الانفتاح على مسيحيّي الشرق اليوم؟

لا علاقة للأمر بما يحدث في الشرق الأوسط، فذلك مجرّد صدفة. والمعهد سبق أن غطّى فعاليات ثقافية شرقية مختلفة في عدد كبير من البلدان، من دون أن تكون العدسات - كما أظنّ - مسلّطة من قبل على المسيحيين الشرقيين. وقد نظّمتُ بنفسي في هذا المعهد قبل سنوات، معرض "الحج" الذي عرف نجاحاً كبيراً، وأخيراً معرضاً عن "الإسلام في أفريقيا" كشف على مدى أشهر عن جمال الحضارة الأفريقية وبهائها من خلال الإسلام.
وفي ما يخصّ مسيحيّي الشرق، فقد اقترح علينا أهل اختصاص، ومنهم مؤرّخون، أن نعدّ لحدث مماثل، وقد تبيّن لنا أنّنا نستطيع لأوّل مرّة عرض تحف فنية من بدايات المسيحية وحتى يومنا. سوف نعرض نحو 500 تحفة في مكان واحد، وسوف يكون الحدث لافتاً.
ومعهد العالم العربي يهدف كذلك إلى أن يكون وسيلة لنقل المعرفة، من دون حدود. والمعرفة كما نعرف، تدفع صاحبها إلى احترام الآخرين وإلى أن يكون متسامحاً معهم. وعلى الرغم من أنّ سِجلّ المعهد يتضمّن معارض وندوات شتّى، فإنّ ثمّة مواضيع كثيرة لم يتطرّق إليها بعد. يُذكر أنّ هذا المعرض ينفتح على مسيحيّي أرمينيا، إذ ثمّة وجود كبير للأرمن في لبنان وغيره من البلدان، كانوا قد هاجروا إلى العام العربي بسبب الاضطهاد التركي.





- في عام 2003، نظّم المعهد معرضاً تحت عنوان "الأيقونات العربية، فنّ مسيحيّ من المشرق". هل المعرض الحالي مرتبط به بطريقة ما؟


صحيح. ثمّة علاقة بين هذا المعرض الجديد وذلك الذي نُظّم في عام 2003. ولعلّه أمر جيّد أن نشاهد ارتباطات وعلاقات بين مختلف المعارض التي ينظمها معهد العالم العربي.
وهذا المعرض الأخير ليس له أيّ هدف سياسي. الأمر كذلك بالنسبة إلى كلّ المعارض التي تنظَّم هنا في معهد العالم العربي. الهدف هو تاريخي وثقافي وفني ولنشر المعلومات، من دون أيّ ارتباط بوضع قائم أو بآخر. لكنّ تاريخ الشرق للأسف، طُبِع بمواجهات ومصالحات. إنّه تاريخ مضطرب وعاصف، وهو أحياناً هادئ ومسالم. لنقل إنّنا لم نَعِ ربّما بما فيه الكفاية أنّ دور الرافد المسيحي من الناحية التاريخية كان مُهمّاً من الناحيتين الفنية والثقافية.
ونحن هنا لا نفكّر في الأمور ذات العلاقة بحركات تنظيم "داعش"، لأنّ من شأن ذلك أن يمنح تلك العصابة المتعصّبة دوراً لا تستحقه. أعضاؤها متعصبّون قتلة، والمسيحيون ليسوا وحدهم ضحاياها، إذ قتلوا مسلمين أكثر من غيرهم. كذلك قتلوا من ليست لديه ديانة، وهاجموا يهوداً وأيزيديّين وغيرهم. كلّ من لا يشبههم هو مجرم من وجهة نظرهم، وهم يجهلون الحضارات التي تركت بصماتها في تاريخ الشرق. إنّهم في منتهى الجهل.
إلى ذلك، لا أرى أنّ تنظيم "داعش" هو المسؤول الوحيد عن ارتكاب الجرائم في الشرق الأوسط، بل إنّ أكبر مجرم في التاريخ المعاصر هو شخص ما زال على قيد الحياة واسمه (جورج دبليو) بوش. كان رئيساً للولايات المتحدة الأميركية شنّ حرباً قاتلة غير شرعية وغير قانونية، وتسبّب في فوضى وترك العراق أنقاضاً. إن بوش هو السبب المباشر وغير المباشر في كثير من آلام المنطقة، بما فيها دوره غير المباشر في نشوء تنظيم "داعش".
وإذا كنّا نتحدّث عن هذا الموضوع، وهو ليس موضوع المعرض الذي يُفتتح غداً في 26 سبتمبر/ أيلول، فإنّه يتوجّب علينا وضعه في إطاره. فالتدخّل الأميركي في العراق وقبله التدخّل السوفييتي في أفغانستان، أي التدخل الخارجي الواسع والإمبريالي، هو الذي تسبّب في الأوضاع التي نعاني منها اليوم، ليس نحن الفرنسيين، فنحن في مأمن عن ذلك. بل نحن نفكّر في المساكين اللبنانيين والأردنيين الذين يستقبلون مئات آلاف اللاجئين السوريين.
إنّ مسألة مسيحيّي الشرق صغيرة اليوم، إذا قارناها بالمآسي التي تضرب المنطقة ككلّ. بالتأكيد، أنا لا أهوّن منها، لكنّني أقول إنّ كل ألم يستحق تحرّكاً ما.

- بالعودة إلى المعرض، ما الذي يمكن للزائر مشاهدته فيه؟

لست متخصصاً في المسألة، لكنّنا سوف نشاهد من ضمن ما سوف يُعرَض، تُحفاً فنيّة لم تُشاهَد من قبل في أيّ معرض في العالم. بالتأكيد، هي معروفة من قبل المتخصّصين، لكنّ الجمهور العريض لم يتسنَّ له من قبل مشاهدتها عن قرب. وتلك التحف استُقدِمت من دول عدّة، من الأردن ولبنان وفلسطين ومن مؤسسات ثقافية من قبيل جامعة يال في الولايات المتحدة الأميركية وأخرى من ألمانيا والنمسا.
وقد سُجّلت حماسة كبيرة وكذلك اندفاع عند إعارة تلك الأعمال الفنيّة لمعهد العالم العربي، وهو ما كان له أثر كبير في نفسي. ثمّة 500 تحفة فنيّة تقريباً، من بينها أيقونات ومَذابح وكلّ ما يرتبط بطقوس العبادة المسيحية في مختلف العصور. وسوف يتمكّن الزائر من الاطلاع على أقدم الآثار المسيحية التي تعود إلى القرن الثاني الميلادي. وبعد أشهر (في فبراير/ شباط 2018) سوف يُنقل المعرض إلى متحف الفنون الجميلة في مدينة توركوان حيث ثمّة فرع للمعهد. وتتميّز تلك المدينة، بحسب ما تعلم، بتنوّع ثقافي وديني كبير، إذ تعود أصول سكانها إلى أكثر من خمسين بلداً. ويعود الأمر إلى مبادرة من قبل عمدة المدينة ووزير الميزانية في الحكومة الحالية، جيرالد دارمانان. ويستقبل المتحف المعرض، لأنّ مبنى المعهد هناك لم تُستكمَل الأشغال فيه، بينما يستقبل القسم الأول المنجَز حالياً معرضاً حول تاريخ الثقافة العربية، ولا سيّما تاريخ الفنّ في المغرب العربي والشرق الأوسط، وهو معرض يحقق نجاحاً كبيراً.

- يمكن القول إنّ المعرض الذي يُفتتح غداً سوف يحالفه النجاح، بسبب أصالته والمساحة الجغرافية التي يغطيها وكذلك المدّة الزمنية، ألفَي عام؟

صحيح، إنّ موضوع المعرض يغوي، لا سيّما أنّه يتضمّن تحفاً فنيّة فريدة، بعضها لم يُعرَض حتى في بلده (الأصلي). وفي حال لم نتجاهل الوضع السياسي الراهن، فإنّ هذا المعرض يعبّر عن وجوده من خلال نفسه، أي من خلال جوانبه التاريخية والثقافية والفنيّة. وثمّة مجلس علميّ تحقّق من أصالة التحف وتاريخها بالإضافة إلى الحرص على صرامة العرض والتقديم وخيار المعروضات الفنيّة، وما إلى ذلك. لذا أظنّ أنّه سوف يكون حدثاً غير مسبوق.

- من الجيّد أن يتضمّن هذا المعرض تمثيلاً لمختلف الكنائس والطوائف المسيحية؟

أنا أجهل الكثير في هذا الموضوع. وحين كنت برفقة الرئيس فرانسوا هولاند في زيارة رسميّة للأردن ولبنان، استقبلنا مطارنة وكان منظرهم لافتاً بملابسهم الدينية المهيبة، خصوصاً في لبنان. فهم بدوا على صورة ذلك البلد الذي تتعدّد فيه الآراء بقدر عدد المواطنين.