محمد بن عرابة... "درويش" جزائري ينقل عشقه بين المدن

04 مارس 2017
وصلت شهرته إلى القطاع العسكري (العربي الجديد)
+ الخط -
لا تخلو الجزائر من أشخاص ذوي إعاقة ذهنية يطلق عليهم لقب "دراويش" يتحدثون مع أنفسهم أو مع كائنات غيبية لا يراها غيرهم. بين هؤلاء العادي في شطحاته وفيهم المتميّز بخصلة من الخصال التي تجلب له الانتباه ما يجعله نجماً من النجوم. يساعدهم في ذلك مخيال شعبي خصب يحيطهم بهالة من الهيبة والاحترام الخاصين.

في مقهى "الطونطوفيل" بمحاذاة "المسرح الوطني الجزائري" في قلب العاصمة يظهر بين فترة وأخرى شاب ثلاثيني يرتدي بذلة متعددة الألوان مع حذاء رياضي وشارة رياضية في رأسه، يطوف على طاولات المقهى، فيقوم له كبار الفنانين وصغارهم في المسرح والسينما، مبادرين إلى التقاط الصور معه، حتى لا تعود تدري من هو النجم من الطرفين. وإذا سألته عن هويته، أجابك بذكر معارفه من الرياضيين والفنانين والإعلاميين، وأخرج لك من جيوبه العديدة صوراً معهم وأوراقاً وقعوها له.

يحار الواحد منهم، حين يذكّره الشاب بأدقّ تفاصيل دوره في هذا المسلسل أو ذاك، منذ عام 1995، مثل عدد الضحكات التي ضحكها وعدد المرّات التي اتصل فيها هاتفياً، وألوان الملابس التي ارتداها، واسم زوجته أو حبيبته في المسلسل، ويستحضر اللحظة، فيتفاعل معها حزناً وفرحاً. يقول الممثل بلال بوسواليم: "إنه عبقري وليس مريضاً، ولا شكّ في أنّ وضعه الصعب جعله يهرب منه بالغرق في المسلسلات الدرامية، والإلمام بتفاصيلها التي نسيها الممثلون أنفسهم، لذلك فهو بات يرى هويته في انتسابه للشخصيات الفنية التي شاهدها والتقى بها".

من هنا، كان من الصعب إقناع محمد بن عرابة ناصر (مواليد 1980) أن يقدّم لنا تعريفاً عن نفسه، بعيداً عن علاقاته بالآخرين، لكن ما إن تسأله "العربي الجديد" عن مستواه الدراسي حتى ينفجر ضاحكاً. يعلق: "لقد غادرت المدرسة، حين بلغت الصفّ السادس عام 1992، بسبب النوم. أحبّ النوم صباحاً، وهو ما جعل غياباتي تتكرّر، ودفع الإدارة إلى طردي". يضيف بعد لحظة وجوم تعقبها لحظة ضحك عميقة: "لماذا تستمتع المدرسة لدينا بطرد التلاميذ، بينما لم تطرد يوماً مديراً واحداً؟".

وجد محمد نفسه خارج المدرسة، وداخل بيت مفخّخ بالأمراض العصبية والتشنّجات، فباع الفول السوداني والملابس المستعملة والذرة المشوية في الطرقات "إلى أن مات أبي عام 2004، مخلّفاً أسرة تخونها لقمتها، فأمّي عصبية إلى درجة أنها تطلي وجهها بالفحم وتخرج صارخة إلى الشارع، وأختي مطلّقة ولها طفل من ذوي الإعاقة، وأخي المولود عام 1969 تنتابه نوبات عصبية، فيهجم على أختي المعوقة ذهنياً، وهو الوضع الذي صرت أتفاداه بالسفر".



بات لا يهمه إلّا السفر. يستقلّ حافلات الليل، ولا يسأل عن الوجهة، المهم أن يجد حافلة ينام فيها ليلاً، ومدينة يتصعلك فيها نهاراً. مرّة يدفع بنفسه ومرّة يعفونه من ذلك، ولا يجد حرجاً في أن يسرد تفاصيله الأسرية للغرباء، بل يجد في ذلك راحة عميقة تطهره من الكوابيس التي بقيت عالقة في البال.

لا يظهر من الشاب الذي يتحدث بلهجة منطقة آفلو (500 كيلومتر جنوب العاصمة) أنّه يتاجر بأوجاعه لنيل المال، بقدر الإحساس بثقته في من يحدّث. ومع سؤاله: "هل تعود إلى البيت أحياناً يا محمد؟" يجيب: "تأتيني أمي في المنام، فأعود في أول حافلة تتاح لي، فأنام في المطبخ الصغير وأغادر البيت فجراً". أما عن الحصول على المال فيقول: "اسألني بدلاً من ذلك، كيف أنفق أموالي، هي تذهب في الدفع للحافلات، وما يبقى منها يسرقه مني أشخاص لا يخافون الله، فأنا أنام، خلال أسفاري، في سلالم العمارات والحدائق العامة".

كلما حصل محمد على مال من أحدهم، يقول إنه سيخصّص شطراً منه لشراء هدية لحبيبته: "تنتظرني عند الرابعة عصراً، في المكان الفلاني، وقلبي لا يُطاوعني على الذهاب إليها من غير هدية". يستحضرها في خياله ليغدق عليها كلّ عبارات العشق والشوق والعتاب التي سمعها في المسلسلات، ومنها عبارة من مسلسل "كيد الزمن" للمخرج جمال فزّاز: "شفيقة.. ما تخلّينيش وحدي، نذبل كالوردة وتطفى شمسي".

وصلت شهرة الدرويش المتنقل إلى القطاع العسكري، فكثيراً ما يقبض عليه في الحواجز الأمنية، ليبقى مع الجنود يوماً أو ليلة، يأكل ممّا يأكلون ويتجاوزون معه التحفظ، فيُلبسونه بدلة رسمية، لينطلق في استعراض عضلاته، وهو يتخيّل عدوّاً محتملاً. يعلّق: "عندما ألبس البدلة العسكرية أشعر أنّي قادر على دحر خمسين إرهابياً دفعة واحدة، بل مائة بل ألفاً". يقول أحد المجنّدين في الدرك الوطني لـ"العربي الجديد": "إنه رجل مبارك ونقي، وما كانت البلاد تحظى بالأمن والاستقرار، لولا هؤلاء الأنقياء الذين لم تتلوّث سرائرهم بما تلوّثت به سرائر الشعب والحكومة معاً".