لم يكن عبد الرحمن ومهدي، ابنا الثامنة عشرة، يدركان أنّ ليل السبت - الأحد الماضي سوف يكون حاسماً بالنسبة إليهما، على المستوى الشخصي. هما توجّها مع مواطنين آخرين إلى وسط بيروت، للمشاركة في واحد من تحرّكات "أسبوع الغضب" الذي دعا إليه اللبنانيون المنتفضون يوم الثلاثاء الماضي، وهدفهما "لبنان أفضل". كانا يأملان أن يكون الحسم على الصعيد الوطني لجهة تحقيق مطالب الشعب، غير أنّ الأوّل خسر عينه اليمنى والثاني عينه اليسرى في خلال مواجهات عنيفة في قلب العاصمة.
في ذلك الليل، 18 - 19 يناير/ كانون الثاني الجاري، استهدف الرصاص المطاطي الذي كانت القوى الأمنية اللبنانية تطلقه في اتجاه المتظاهرين، الشابَين مباشرة في العين، فيما كان آخرون أكثر حظاً منهما إذ طاولهم ذلك الرصاص في أجزاء أخرى من أجسادهم، علماً أنّ كلتا الحالتَين (استهداف العين أو أجزاء أخرى من الجسد) تُعدّان انتهاكاً لحقوق الإنسان وللقوانين الدولية التي تحظر استخدام مثل ذلك الرصاص بالطريقة التي استُخدم فيها، لا سيّما في اتجاه الرأس والوجه والعيون والصدر، مشترطة حصر توجيهه إلى القدمَين في حال "الضرورة الشديدة" لاستخدامه.
لا يخفي الشابان الآتيان من منطقتَين مختلفتَين من البقاع، شرقي لبنان، أنّهما كانا يأملان أن ينجحا مع رفاقهما في اجتياز الأسلاك الشائكة التي تفصل بينهم وبين مبنى البرلمان في ساحة النجمة في بيروت، بعدما صمّ نواب الأمّة آذانهم عن مطالباتهما ومطالبات اللبنانيّين المنتفضين عموماً منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
من بلدته البقاعية، بوارج، في قضاء زحلة، توجّه عبد الرحمن جابر إلى وسط بيروت، يوم السبت الماضي، حاملاً معه حلمه... حلم كلّ شاب وشابة لبنانيَّين. يقول لـ"العربي الجديد" من على سريره في المستشفى: "نزلتُ وكلّي ثقة بأنّنا سوف ندخل ساحة النجمة لنستردّ حقوقنا المنتهكة ونسقط المنظومة الفاسدة بأكملها. لكنّني أُصبتُ فيما كنت أحاول إنقاذ صديقي، ولم أشعر إلا بشيء ما يدخل مباشرة في عيني اليمنى". ويخبر عبد الرحمن الذي يبلغ قريباً عامه الثامن عشر: "نحن ستّة أولاد في العائلة، ووالدي لم يعد قادراً على إعالتنا. حتى أنّه عجز عن تسجيلي هذا العام في المعهد حيث كنت أتابع دراستي في مجال الفندقية. لذا قرّرتُ البحث عن عمل، من دون جدوى. وعندما اندلعت الثورة، كنتُ من أوائل الذين نزلوا إلى الساحات".
بحماسة وثقة كبيرتَين، يؤكد عبد الرحمن: "لبنان وطننا، ونحن نريد العيش فيه بسلام وكرامة. الهجرة ليست هدفنا، بل نحن نطمح إلى دفع الزعماء والسياسيّين إلى الرحيل. لقد ذلّونا وجوّعونا. فليرحلوا عنّا. نحن لا نريدهم". ويتابع: "لن نترك الساحات والشوارع، والكلّ مدعوّ إلى النزول ضدّ الجوع والقهر والظلم".
وعبد الرحمن كان يحلم بأن يصير يوماً قبطان طائرة، غير أنّ القدر رسم له وجهة مختلفة. على الرغم من ذلك ومن الغصّة التي يحملها، يشدّد على أنّ "ما حدث لن يحبطني"، مضيفاً أنّ "عيني هي أقلّ ما يمكنني تقديمه لهذه الثورة العظيمة ولهذا الوطن الذي أحبّ. فالثورة هي عيني الثانية، وسوف نكمل جميعاً ما بدأناه من دون استسلام، حتى لو خسرنا نظرنا بالكامل".
من جهته، قصد مهدي البرجي وسط بيروت يوم السبت الماضي، منطلقاً من بلدته شعث، في قضاء بعلبك. لم يكن يعلم أنّ الرصاص المطاطي سوق يقتلع عينه اليسرى. يخبر "العربي الجديد" من على سريره في المستشفى: "تلقّيت اتصالاً هاتفياً، وما إن أنهيتُ حديثي حتى سمعتُ أحدهم يصرخ: انتبه! خلفك دركي. فاستدرتُ لأتلقّى رصاصة مطّاطية مباشرة في عيني". يضيف مهدي: "اضطررت إلى التوقّف عن متابعة دراستي في مجال الإلكترونيك. وعلى مدى عامَين رحت أبحث عن عمل، من دون جدوى. لكن أخيراً، قبل عشرة أيام، بدأت أعمل في شركة أمن". يُذكر أنّ مهدي، منذ أوّل أيام الثورة، "في الساحات" بحسب ما يؤكد. ويقول: "مطالبي هي مطالب كلّ الناس... هي حقوقنا البديهيّة. حلمتُ ببناء وطن آمن وكريم لي ولأختي الصغرى ولكلّ اللبنانيّين".
"هما ضحية السياسيّين الفاسدين". هذا ما أكّدته في اتصالَين منفصلَين مع "العربي الجديد"، والدتا عبد الرحمن جاير ومهدي البرجي، علماً أنّ وجعهما على ولديهما هو نفسه. وتسأل منى البسط، والدة عبد الرحمن: "ما الذي ينفعنا الآن بعدما خسر ابني عينه؟ يتعاملون مع الشباب العزّل بوحشيّة، لكنّني لن أترك حقّه يضيع هباءً. كم أتمنّى أن يعيش السياسيّون الألم نفسه". من جهتها، قالت لميس شريم، والدة مهدي: "كنتُ أحلم أن أرى ابني طبيباً ناجحاً في بلده. حتّى الحلم قتلوه".
في سياق متصل، تصرّح ميساء منصور من حملة "مناهضة العنف ضد الثوار" لـ"العربي الجديد"، بأنّ "أكثر من 30 إصابة بالرصاص المطاطي سُجّلت، في منطقة الوجه ومحيط العين، وقد استوجبت أربع إصابات منها عمليات جراحية، من بينها الجراحتان اللتان خضع لهما عبد الرحمن ومهدي. ولم تصدر بعد أيّ تقارير طبية بشأن الحالتَين الأخريَين".