الحقيقة والضعف

13 يونيو 2016
قد نكون محبوسين داخل رؤى ضيقة (Getty)
+ الخط -
معرفة الحقيقة وحدها لا تكفي كي تسود وتنتج ما يحصنها ويحميها، ويقوي من أثرها على مجريات حياتنا وتصرفاتنا. تحتاج حماية الحقيقة إلى براءة وقوة في آن واحد.
قد تكون الحقيقة لوحدها ضعيفة، وقد تتشوه وتُلوّث حتى تنقلب إلى ضدها وتصير عدوّة نفسها، ما لم تكن محمية ومعافاة. يؤدي الضعف المَرَضيّ الذي يرافق الحقيقة إلى حالة من العجز، ومن ثم شيئاً فشيئاً يتحول العجز إلى يأس وإحباط. حينها يحل الألم محل المعرفة، وتطغى العزلة بدل المشاركة، ويسود الانطواء مكان التعاون.

ثمة دافع أخلاقي هو الذي يصون الحقيقة ويحميها، ومن دونه تبقى مجرد معرفة، أي أنها تبقى في عالم المثال والمبدأ الخالصين.
ما يحفزنا نحو اللجوء إلى عالم المثل ربما يكون قناعاً للضعف، الذي يعتري كياننا، وبدل أن تكون هناك ممارسة عامة تحول الحقيقة إلى عمل ملموس، يكون هناك عزوف فرديّ عن الممارسة. لكن الأفراد، على هذا النحو المقيد، يصبحون أبعد ما يكونون عن أنفسهم، أي يبقون داخل ضباب يفصلهم ويحجزهم ويقيدهم.

ربما يتعلق الأمر بالطريقة التي نتلقى بها المعرفة، وربما تكون المشكلة في طرق التعليم والتربية. من يدري فقد نكون محبوسين داخل رؤى ضيقة، داخل عزلة عما يجري حولنا، رغم ظاهر الحال الذي قد تبدو فيه الأشياء متاحة للجميع. عندما تتحول الحقائق إلى مجرد معلومات ملقاة هنا وهناك، تصير كما لو أنها فقط في حال من السيولة الطارئة، في حالة من النشر والعرض فقط. هكذا تصير الحقيقة متقلبة ومنزوعة عن جذرها وأصلها الأول.

طرق التربية، على حال صحتها، التي لا تساعد على تحويل المعرفة إلى سلوك عام، تبقى مجرد اقتراح، مجرد رؤية، مجرد نصيحة، أي أنها تظل مرهونة داخل فضاء القول والنقاش. هكذا تكون معرفة الحقيقة نوعاً من تأجيلها وكتمها وكبتها. تبقى مخنوقة، تبقى بلا عون وبلا قوة وبلا دافع.
تبقى الأفعال هي المدار الذي تُختبر فيه الحقائق. من دون فعل ملموس لا يمكن للحقيقة أن تتحول إلى عمل، ومن دون عمل تتحول الحقيقة إلى فكرة نائية، ثم تُنسى، تصير مجرد ذكرى. عندما نجابه مجريات الحاضر بالذكريات نكون كمن تقاعد عن الحياة، نكون أشبه بعجائز ومسنين لا يقوون على فعل شيء سوى العودة إلى الماضي.

إنها حيلة إذاً، شيء من التواري ومن التسويف ومن التأجيل، من مجرد تمضية للوقت حتى الغرق في ركام من الحقائق المشلولة.
هل هو شكل جديد من الغياب، من الغرق في سراب، في حالة من الغيبوبة وفقدان الوعي؟ إننا محل النداء ومحل العمل. الحقيقة، ثم الحقيقة، هي الخطوة الأولى، إنها تنادينا كل يوم، سائلة عن الجدوى.

دلالات
المساهمون