الفكاك من الاختناق

17 ديسمبر 2018
لقطة من كيب تاون (Getty)
+ الخط -
قد تتساءل وأنت غارق في الدهشة: أيهما نبت أولاً الشجر أم المباني؟ فالبيوت هنا رقيقة الطابع تتوسط الخضرة، بعضها نُحت في الصخر من دون أن يقلل من القيمة الجمالية والبيئية للتلّ أو الجبل، وبعضها يشبّ عند أطراف المرتفعات كالطفل المتشبّث بعنق أمّه. والأشجار السامقة تحرس ما تحتها من شجيرات مزهرة وبساط أخضر لا يشوّهه منظر الأسفلت المغسول بالمطر ولا اهتمام البشر الذين تشبّعوا بثقافة النظافة.

في قلب المدينة، تجد المباني الشاهقة تغزّ في الفضاء، بينما تتجلّى لمسة المخطط ذي الحسّ البيئي العالي بائنة في الباحات الخضراء هنا وهناك. أما ساحة السوق الأخضر، فهي من أشهر معالم وسط مدينة كيب تاون، يتناوبها نشاطان على مدى اليوم. فيضجّ سوقها النهاري بمرتاديه من مختلف الجنسيات الباحثين عن هدايا وتذكارات بين معروضات السوق؛ من تحف ومشغولات يدوية ومنحوتات خشبية وعاجية، وتشكيلات من ممنوحات البحر من أصداف وسواها، وذلك حتى الخامسة عصراً حين يقوم أصحاب المحالّ بتفكيك معارضهم ونقلها، بينما ينتظر سيّاح النشاط الليلي. وذلك المهرجان الراقص بجنون أفريقي جامح حتى الفجر، تنغسل فيه الأجساد من رهق النهار والذاكرات، من تاريخ أسود شهدته الساحة نفسها عندما كانت من أكبر أسواق النخاسة في جنوب أفريقيا، لقربها من نقطة التقاء المحيطَين العظيمَين ومراسي السفن الناقلة للعبيد. هكذا استبدل الدمع ونزف الدم وآهات الغبن بقطر العرق والغناء والضحكات الصاخبة.

إنك لن تبلغ المحيط إلا عبر ساحة تتخللها الأشجار، حتى الرمل الذي يفصل الخضرة عن الرصيف القائم في متانة وعلوّ لا يحول دون متعة النظر إلى الموجات الراقصة والأفق المتلاشي في الماء.

ولعلّ ذلك ما منح كيب تاون حقّ احتلال مكانتها من ضمن قائمة المدن الأجمل في العالم. هو ليس موقعها ومناخها فحسب، بل التخطيط المديني المبني على رؤية بيئية جمالية فريدة وبحساسية فائقة تجاه المساحات المفتوحة، على الرغم من أنّ تخطيط وتنظيم المناطق المفتوحة والخضراء في المدن الأفريقية لا يزالان دون المستوى. الظروف المناخية والبيئية القاسية تقتضي الالتفات إلى هذا الأمر، لتخفيف درجات الحرارة المرتفعة وكسر حدّة الرياح الجافّة والرطوبة الدبقة، وسط هذه النهضة العمرانية الحمقاء والأعداد المهولة من البشر والمركبات التي لا تتسع الشوارع لها.




يؤكد العالم البيئي الدكتور محمد عبد الله الريح، أنه لا فكاك من هذا الاختناق إلا بالاهتمام بالساحات الخضراء، واجتهاد السكان للحصول على ظروف بيئية أفضل، نتيجة الدور الذي تؤدّيه الخضرة في تقليل الآثار السلبية الطبيعية والصناعية في البيئة، عن طريق عملها كمرشحات لتنقية الجوّ من الغبار وإزالة الغازات المضرّة بالبيئة، إلى جانب الحفاظ على اللمسة الجمالية.

*متخصّص في شؤون البيئة
دلالات
المساهمون