لا ذكريات جميلة في سورية

12 ابريل 2015
... لعلّ الحياة في بلغاريا تكون أجمل (فرانس برس)
+ الخط -

تركت السوريّة جميلة (28 عاماً) بلدها وهاجرت إلى بلغاريا مع ابنتيها شام وهاجر. كان عليها أن تتخذ هذا القرار بعد كل ما عانته في سورية. كانت قد تزوجت في الأيام الأولى للثورة. ومنذ ذلك الوقت، لم يكن زوجها يتوقّف عن ضربها.

تقول لـ"العربي الجديد": "زوجي حنون وطيّب وكريم. لكنت كان لديه مشكلة مع النساء وهوساً في النظافة". أكثر ما كانت تكرهه هو ضربها أمام طفلتها هاجر. تتابع أن "التعنيف جعلني أخاف الرجال. أبكي بمجرد أن يصرخ أحدهم في وجهي". تذكر أنها كانت حاملاً بطفلتها الثانية شام، حين ضربها على بطنها ورأسها، ما أدى إلى حدوث نزيف داخلي في عينها اليمنى.

تتحدث جميلة بأسى عن أساليب زوجها في التعنيف. تقول: "كان يستخدم عبارات تسيء إليّ كامرأة، ويعاملني معاملة سيئة جداً أمام أهله وجيرانه. لم يكن يحترمني أبداً. بعدها صار يستخدم الطناجر والكراسي لضربي. في أحد الأيام، وبعد نشوب مشكلة كبيرة بيننا بسبب هوسه بالنظافة، نقلت إلى المستشفى لأنني صرت عاجزة عن المشي. لم يكن باستطاعتي البوح بمعاناتي. في مجتمعنا، على المرأة أن تقبل بنصيبها".

تتابع جميلة: "كانت ابنتي الكبيرة هاجر (ثلاث سنوات)، تراقب سقوطي على الأرض نتيجة تعرضي للضرب المتكرر من قبل زوجي. لم تكن تبكي. فقط تضع يدها على جسدي، وتقول لي: واوا. كانت تقتلني بنظراتها الحزينة". تقول إن زوجها كان يكره النساء، لكنه كان مضطراً للزواج. هذه تقاليد مجتمعنا. كان الناس يقولون له إن "زوجتك نظيفة ورائحة بيتك جميلة وأطفالك مرتبون، فلماذا الغضب؟ لكنه كان يطلب المزيد، غير آبه بالقذائف التي تسقط في الخارج".

صبرت جميلة على أوجاعها طويلاً. تقول: "كنا محاصرين في مدينة حماه. وارتفعت أسعار المأكولات بشكل كبير. كان الجيش النظامي يدخل إلى المحال التجارية، ويخرّب المونة الموجودة. يخلط السكر مع الملح والبهارات والرز، ويسرق المعلبات ليبيعها بأسعار مرتفعة. صرنا نشتري ربطة الخبز بـ150 ليرة (0.7 دولار)، علماً أننا كنا نشتريها بـ15 ليرة".
كان زوج جميلة يعملُ بائعاً للعصافير، وهي مهنة جيدة في سورية. خلال الحرب، اضطر إلى العمل كسائق أجرة من أجل توفير المال لعائلته. وخشية توقيفه على الحواجز النظامية، كان يحمل ورقة من المهمة الجوية (حصل عليها بطريقة غير شرعية) تسمح له باجتياز هذه الحواجز من دون التعرض له ضمن حماه فقط.

في إحدى الليالي، تحكي جميلة أنه "كان عليه التوجه إلى منطقة يبرود. كانت المعارك تشتد. خلال اجتيازه حاجز الموت، شككوا بنظراته التي بدت كارهة لهم، علماً أنه كان من أشد المعارضين لسياسة النظام. أخذوه إلى فرع الأمن العسكري في حمص، ثم إلى فرع الأمن العسكري في حماه، ثم إلى مركز الباروني. صرت أتنقل مع والدي من سجن إلى آخر بحثاً عن زوجي". تتابع أن "عائلته لم تسأل عنه. صرت أنتظر على أبواب السجون للسؤال عن أحواله. حتى أنهم هددوني بحرماني من أطفالي في حال غادرت البلاد". تضيف: "بعد جهد طويل، قيل لنا إن زوجي متهم بدعم إرهابيين، ونقل إلى فرع 248 في الشام، وهو أخطر المراكز التابعة لجهاز الاستخبارات في سورية". شعرت بفرحة كبيرة بعدما أصدر الرئيس السوري بشار الأسد قراره بالعفو عن المدنيين المسجونين في هذا المركز. إلا أنه فقد أثر 90 في المئة من المساجين، وقد قتل بعضهم، بينهم زوجي".

لم يعد باستطاعة جميلة العيش في سورية، وخصوصاً بعد اقتحام قوات النظام بيتها وتدميره بالكامل، بحجة البحث عن أوراق ووثائق، عدا عن تهديد عائلة زوجها الدائم لها. تتابع: "أكثر ما أخافني هو حادثة حصلت قبل اتخاذي القرار بأيام. كنت في منزل أهل زوجي وسمعت رجلاً عجوزاً يطرق أبواب الجيران ويسأل عن رجل يرغب في الزواج من إحدى بناته. فقد علم من أحد عناصر الجيش السوري أن بعض العناصر سيعودون إلى منزله ليلاً لاستكمال التحقيق، والاعتداء على بناته. أرعبني المشهد، فقررت أخذ بناتي إلى بيروت".

حياة جميلة في بيروت لم تكن تخلو من الأوجاع والمآسي. صارت تتنقل من منزل إلى آخر. في إحدى الليالي، تعرضت لتحرش جنسي من قبل شاب كانت تربطها به صلة قرابة. ولولا صراخ طفلتها الصغيرة التي خافت من الرجل، لما كان ليتركها. حاولت مراراً الحصول على فيزا للذهاب إلى بلغاريا والاجتماع بوالدتها وأشقائها. لكن السفارة البلغارية رفضت طلبها ثلاث مرات، الأمر الذي دفعها إلى اتخاذ قرار بالهجرة غير الشرعية عبر تركيا. واتفقت مع مسؤول التهريب في تركيا وأعطته المال.

بعد ساعات طويلة أمضتها في البحر بانتظار الموت غرقاً أو بدء حياة جديدة، وصلت جميلة إلى بلغاريا حاملة ابنتيها. جلّ ما تتمناه اليوم هو معالجة ابنتها، ونزع صورة الرجل السيئ المترسخة في ذهنها عن زوجها. لم تعش يوماً جميلاً في سورية. لا تتجرأ على شكر الله لأنه أنقذها من يدَي زوجها، لكنها تكتفي بعبارة "الحمد لله على كل شيء". تبدو اليوم سعيدة وقد عادت إلى منزل والدتها.
المساهمون