التهديد بالانتحار... شكل احتجاجي في الجزائر

27 يونيو 2018
أزمات السكن تدفع بكثيرين إلى إنهاء حياتهم (فرانس برس)
+ الخط -

حتى وقت قريب، كان الانتحار في الجزائر ظاهرة غريبة عن المجتمع المحافظ، غير أنّه في السنوات الأخيرة ومع تزايد الضغوط الاجتماعية والمشاكل الأسرية والتربوية، صار الانتحار موضوع نقاش مجتمعي. لكنّ الانتحار لم يعد مجرّد هروب من الواقع، بحسب ما يوصف، بل تحوّل في الآونة الأخيرة لشكل احتجاجي على مظالم وإلى محاولة لفت نظر الى مطالب اجتماعية ومهنية.

بصعوبة، تمكّن بلال وهو مراسل صحافي من إقناع مجموعة من الشباب صعدوا إلى سطح مبنى وهدّدوا بالانتحار عبر القفز من علوّ شاهق، من التراجع. وهؤلاء كانوا قد عمدوا إلى ذلك بسبب عدم حصول عائلاتهم على شقق سكنية في بلدة أحمر العين بولاية تيبازة (جنوب العاصمة الجزائرية). وكانت 18 عائلة قد اقتحمت مساكن شاغرة في حيّ سكني في البلدة، لكنّ السلطات أصدرت قرارات بالإخلاء الفوري وهمّت الشرطة إلى التنفيذ. لكنّ أربعة من شبان تلك العائلات، صعدوا إلى سطح مبنى وهدّدوا بالانتحار من خلال رشّ أنفسهم بالبنزين وإشعال النار في أجسادهم، كاحتجاج على قرارات الإخلاء.

يقول بلال: "قصدت المكان من أجل التغطية الصحافية، لكنّه تبيّن لي أنّني أعرفهم فرداً فرداً وأنّ مفاوضات مسؤولي الأمن والسلطات معهم لم تجدِ نفعاً. فكّرت في التدخل، ومن دون سابق إنذار وجدت نفسي أتحدّث إليهم، قبل أن أصعد إليهم من أجل تهدئتهم، بموافقتهم. وبعد وقت قصير، أقنعتهم بتسليمي قارورة البنزين وألقيتها بعيداً، وتمكّنت من إقناعهم بالعدول عن فكرة الانتحار". يضيف بلال أنّ "التهديد بالانتحار لم يكن هدفه التخلص من الحياة، وإنّما يأتي كشكل من أشكال الاحتجاج وإيصال الصوت والمطالب إلى المسؤولين ولفت أنظار الإعلام والمواطنين إلى المعاناة، والضغط على المسؤولين بهدف الاستجابة للمطالب". ويشير بلال إلى أنّ "هذه الحالات تتكرر كثيراً بسبب الضيم الاجتماعي الذي تشعر به فئات كبيرة من المجتمع في الجزائر".

وفي منطقتي ورقلة وحاسي مسعود النفطيتين جنوبي الجزائر، تكرّرت حوادث التهديد بالانتحار. فراح شبان عاطلون من العمل يقدمون على احتجاز شاحنة نقل الوقود ويصعدون إلى أعلاها ويفتحون فوهة الصهريج الضخم مهددين بإشعالها. هل يمكن تصوّر ما يخلفه إشعال صهريج مملوء بالوقود وسط المدينة، والخسائر البشرية والمادية التي قد يتسبب فيها؟ لا يمكن تصوّره إذ إنّ أجهزة الأمن، لطالما دفعت عقلاء إلى التدخّل وإقناع الشباب بالنزول والتخلي عن الفكرة.




من جهة أخرى، كثيراً ما يتحوّل التهديد بالانتحار أداة ضغط على محكمة ما بشأن قرار قضائي. قبل فترة، وعلى سبيل المثال، احتجت امرأة داخل محكمة في مدينة تيبازة على حكم أصدره قاضٍ ضد ثلاثة من أبنائها، فحاولت إحراق نفسها بعدما سكبت مادة حارقة على جسدها وأشعلت النار. لكنّ ضابط شرطة تدخّل لإنقاذها من الموت، مستخدماً معطفه، ونُقلت بعدها إلى المستشفى. كذلك، من الممكن أن تكون تلك المحاولات أداة ضغطٍ على السلطات للحصول على منصب عمل. فقد أقدم موظف في بلدية بولاية معسكر (غربي الجزائر)، على التهديد بحرق نفسه وأبنائه في حال لم تتخذ البلدية قرارها بإعادته الى منصبه.

ويقدّر الباحثون أنّ الانتحار لم يعد هدفه التخلّص من الحياة فقط والذي يُربط عادة ببواعث مختلفة، من قبيل الفشل في الحب أو المشاكل العائلية أو الإخفاق الدراسي أو غيرها، بل تحوّل كذلك إلى أدوات لرفض واقع معيّن من قبيل عدم الحصول على وظيفة أو الحرمان من السكن وما إليهما.

يقول الباحث محمد العلمي السائحي إنّ "الانتحار تحوّل كذلك إلى وسيلة للاحتجاج على الفساد الإداري والتعسف السياسي، سعياً إلى إحداث تغيير سياسي منشود، كما كان الأمر مع انتحار البوعزيزي في تونس. منذ تلك اللحظة، صار الانتحار العلني بالاحتراق وسيلة للاحتجاج والضغط على السلطات الإدارية والسياسية، للتغيير من سلوكها تجاه المجتمع، وبات أداة يلجأ إليها لدفع الإدارة والسلطة السياسية على تلبية مطالب الأفراد والفئات المتضررة". يضيف أنّه في وقت سابق، كانت حالات الانتحار القليلة المسجلة في الجزائر تعود إلى شباب في الغالب، لكنّها باتت تمسّ مختلف شرائح المجتمع بما في ذلك الأطفال. كذلك فإنّها باتت تتسم بالطابع العلني بينما كانت في السابق تتمّ خفية مع تكتّم. ويلفت العلمي السائحي إلى أنّ الانتحار في الجزائر "بات يتميز في الوقت الحالي باشتماله مختلف فئات المجتمع. فهو لم يعد مقصوراً على الرجال الراشدين، بل امتدّ ليطاول الشيوخ والنساء والأطفال حتى. وانتشار هذه الظاهرة وامتدادها يدلان دلالة قطعية على أنّنا إزاء مجتمع مأزوم، وأنّ حجم المشاكل الاجتماعية قد زاد عن طاقة تحمل الفرد". ويتحدّث عن تطوّر وسائل تنفيذه، إذ إنّه لم يعد مقصوراً على الوسائل الثلاث، الشنق والطعن والسم بل أضيفت إليه وسائل أخرى، من أبرزها الاحتراق والقفز من علو شاهق وقطع الشرايين.




ويؤشّر تحوّل التهديد بالموت إلى أداة وشكل للاحتجاج الاجتماعي في الجزائر على مأزق اجتماعي حاد نتيجة جملة من الإكراهات المتزايدة في المجتمع الجزائري، في حين أنّ أدوات المطالبة الطبيعية بالحقوق غير متوفّرة، وهو ما يدفع الضحايا وهم الفاعلون أنفسهم إلى وضع الحق في الحياة نفسه قيد المغالبة.