موعودون بليالٍ أخرى في لبنان

31 ديسمبر 2017
خلف المحتفلين عمال لا يعرفون الاحتفال (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -
على امتداد ساحل العاصمة اللبنانية بيروت مقاهٍ ومطاعم وفنادق تستعد لإحياء سهرة رأس السنة الميلادية الموعودة. كلّ منها يرفع يافطات وينصب إعلانات تشير إلى حفلته التي يحييها "النجم" الفلاني و"سيدة الرقص" الفلانية. بعضهم من المشاهير وغيرهم ربما تكون المرة الأولى التي تصادف اسمه فيها. كلّها إعلانات موجهة إلى ساهرين حجزوا مسبقاً كما تنصّ الشروط، فليلة رأس السنة واحدة كلّ عام ولا بدّ من استغلالها خير استغلال وجني أكبر قدر من الأرباح. الأزمات الاقتصادية ومعها المعيشية متواصلة في لبنان، لكنّ "السهّيرة" يتوفرون دائماً مهما كانت الظروف.

بعيداً عن هؤلاء، لكن بالقرب منهم تماماً، هناك من لا يحتفلون بسهرة رأس السنة، وإن وُجِدوا في المكان عينه. منهم العمال في المطابخ وداخل الصالات الصادحة بالموسيقى والمليئة بما لذّ وطاب أكان طعاماً وشراباً أم مزاجاً ما. ومنهم أيضاً عمال الفاليه باركينغ (خدمة ركن السيارات).

غالباً ما لا يتقاضى هؤلاء العمال أكثر من الحدّ الأدنى للأجور (450 دولاراً أميركياً) إذ تعتمد مهنتهم على البقشيش المستند في دوره على عدد الزبائن الذين يرتادون المكان، خصوصاً في نهاية الأسبوع والمناسبات. يدفع كلّ زبون تعرفة محددة لركن سيارته، لكنّه يتجاوزها في كثير من الأحيان. وما يزيد على التعرفة يذهب إلى العامل نفسه. على هذا الأساس، يعترف محمد ك. (38 عاماً) الذي يتولى هذه المهمة أمام مطعم ومقهى معروف عند الخط الساحلي للعاصمة أنّه ينتظر ليلة رأس السنة: "ولو كانت لديّ الحرية في عدم المجيء إلى العمل، أفضّل أن أعمل في ليلة رأس السنة بالذات". في هذه الليلة قد يصل مبلغ ما يجمعه من الزبائن إلى راتب شهر كامل: "غلّة العام الماضي في رأس السنة كانت أكثر من 400 دولار وأتمنى هذا العام أن تكون أكثر من ذلك".


لكن، هل يشعر بضيق ما من إمضاء الليلة بعيداً عن عائلته المؤلفة من زوجته وثلاثة أولاد ذكور أكبرهم في التاسعة؟ فمن المعروف أنّ ليلة رأس السنة هي لدى معظم اللبنانيين ليلة سهر واحتفال عائلي، ولو في المنازل أمام الشاشات وما تعرضه من برامج ترفيهية. محمد يعتبر المال الذي سيجنيه أكثر فائدة لعائلته: "أنت تعلم وأنا أعلم أنّ هذه الأجواء ليست لي ولأمثالي، ومن يفكر في السهر عليه أن يكون قادراً على ذلك. أن أوفّر الملابس والطعام لعائلتي أفضل من التبطل والإنفاق. وفي كلّ الأحوال، تمضي زوجتي وأولادي السهرة مع أهلها في منزلهم. وهكذا يمكن أن أضمن أنّهم سيكونون سعداء".

لا يشعر محمد بأيّ أسف حين يواجَه بفرضية أنّ أولاده وزوجته يريدونه أن يمضي الليلة معهم: "تقليب المواجع لا فائدة فيه. تسلّمت هذا العمل قبل أربع سنوات وتحسنت أحوالنا. قبلها عشت عامين عاطلاً من العمل أمضي أوقاتي كلّها في المنزل فتحولت حياتنا إلى نكد وشجار وشعرت بكثير من المهانة وأنا أستدين من هنا وهناك وأعمل يوماً ولا أعمل عشرة في النجارة وهي مهنتي الأصلية. الحمد لله، هذا ما أقوله دائماً، فللناس ليلة رأس السنة ينفقون فيها، ولي ليلة رأس السنة التي أجني فيها وأوفّر ما أجنيه لأيام وليالٍ أخرى تفرح زوجتي وأطفالي وتشعرني بقيمتي".

على العكس من محمد، لا يشعر ناصر س. (29 عاماً) بأيّ راحة لإمضاء ليلته في العمل. في العامين الأخيرين صودف دوام عمله نهاراً، هو الذي تتقلب دواماته دائماً تبعاً لظروف عدّة. يعمل حارساً أمنياً، أو ما يعرف باسم "سيكيوريتي". هذا العام طلب كالعادة أن يكون دوام عمله نهاراً في الحادي والثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول، كي يتسنى له الاحتفال مع خطيبته في أحد المقاهي، والعبور إلى العام الجديد وهي في حضنه. لكنّ ذلك لم يُتَح له، هو الذي خطب قبل أشهر لا أكثر. غيره من موظفي الشركة طلبوا الأمر نفسه ونالوا إجازاتهم بينما نُظر في سجله السابق في نيل الإجازة نفسها لعامين متتاليين، فتقرّر أن يكون في الدوام هذه المرة.

يتولى ناصر حراسة مصرف، وبخلاف الشارع القريب له المليء بالمطاعم والمقاهي بما فيها من سهر وطرب، فالشارع الذي يمضي ليلته هذه فيه كئيب إلى أقصى حدّ، خصوصاً في هذه الليلة، فهو لا يضمّ غير شركات نهارية ولا أثر فيه لأيّ احتفال. هذا الأمر بالذات يسهم أكثر في تحويل سهرته، وهو في الدوام، إلى أسوأ ما يمكن، فربما اعتاد الوحدة في وظيفته لكنّ للوحدة في ليلة رأس السنة وقعاً أشدّ.

على الرغم من كلّ ذلك، يعوّل ناصر على تمكّن خطيبته من إمضاء السهرة معه ولو لقليل من الوقت لا أكثر، إذ ستمرّ به مع شقيقتها قبل منتصف الليل، لتقدم له كاتو العيد، ومعه قبلات وتمنيات العام الجديد، عسى أن يكون احتفال العام المقبل مختلفاً.