خليفي الحاج أحمد: "راهب التاريخ المنسي" يحرس الذاكرة الجزائرية

16 ابريل 2017
يمارس النحت وينجز لوحات تشكيلية (العربي الجديد)
+ الخط -
"نصف قرن انقضى على الاستقلال الوطني، وما زال الجزائريون يعدّون بعض الأشخاص خونة للبلاد ولذاكرتها الثقافية. هم لم يغفروا للذين انخرطوا من بينهم ضدّ مسعى ثورة التحرير، غير أنّهم في الوقت نفسه يغفلون عن مساعي الذين يتولّون مهمّة الحفاظ على الذاكرة. ويكتفون بالاستنكار الصامت بينما يعاينون انهيار كثير من معاقلها". بهذه الكلمات يستقبل خليفي الحاج أحمد، مواليد 1968، "العربي الجديد"، في بيته في منطقة تاجموت في محافظة الأغواط، على بعد 400 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة. هنا، قطع أثرية وزّعها بعناية فائقة على جنبات المكان، فلا تدري إن كنت في أحد المتاحف المتخصصة في تاريخ الإنسان أم في بيت مواطن لا يملك وظيفة أصلاً. وتتضاعف حيرتك حين تدرك القيمة التاريخية والمالية لتلك القطع، بما في ذلك أحجار كريمة مختلفة الألوان والأحجام.

في عام 2011، كانت الفكرة بتحويل الحاج أحمد بيته إلى متحف، "وتمكّنت من تجسيدها في عام 2003. وفد إليّ زائرون محليون وشجّعوني على الاستمرار في المشروع الذي بدأ يستقطب منذ عام 2005، باحثين أجانب في علم الآثار والأنثروبولوجيا وعلم المستحاثات والمناخ والتوازن البيئي. وهؤلاء أتوا من فرنسا وكندا وإسبانيا وألمانيا وإيسلندا وسورية والعراق وتونس والمغرب". يُذكر أنّ المتحف احتضن الملتقى العربي للكشافة كذلك.

يعزو الحاج أحمد الذي يحمل شهادة تقنيّ عالٍ في المعلوماتية، اهتمامه التراثي هذا إلى توجيهات والده الراحل. "كانت أولى رحلاتي الميدانية معه. فتخصّصت في التوازن البيئي في الأطلس الصحراوي منذ عام 1986، مكثّفاً رحلاتي الميدانية إلى المواقع الأثرية والسياحية. وهو ما مكّنني من جمع نحو 900 ألف صورة رقمية و300 ساعة تسجيل فيديو في مختلف المواضيع ذات الصلة".

يرفض تقاضي دينار واحد من السياح الذين يزورون متحفه (العربي الجديد) 


بالنسبة إلى الحاج أحمد، فإنّ الأمر تعدّى كونه علماً وفنّاً وواجباً تجاه الذاكرة الوطنية، ليتحوّل إلى شغف وعزاء في الحياة. ويقول بشيء من الشعرية، هو الذي يكتب الشعر باللهجة المحكية: "لقد أصبح نومي بالقرب من تحفي في حكم التحليق، وصحوي عليها وهي مرتّبة في حكم الحمّام الروحي العميق، وإذا اضطرّتني ظروفي إلى أن أبتعد عنها قليلاً، من ذلك الخروج لمزيد من الاستكشاف، فإنّني أحسّ بضيق في التنفّس، ورغبة ملحّة في العودة سريعاً". وهذا ما جعل "راهب التاريخ المنسي"، كما يلقّبه صديقه المسرحي هارون الكيلاني، يرفض تقاضي دينار واحد من السياح الذين يزورون متحفه، على الرغم من الخدمات الكبيرة التي يقدّمها لهم، لا سيما للباحثين منهم. يُذكر أنّ تقاضي بدل ما، هو أمر معمول به في العالم، ومن حقّه أن يفعل ذلك، خصوصاً أنّه لا يملك مدخولاً ثابتاً، لا من الحكومة ولا من القطاع الخاص. لكنّه يبرّر خياره هذا بالقول: "أتعامل مع كلّ زيارة يقوم بها أحدهم، بغضّ النظر عن هويته، على أنّها أجري. فهو جاء ليشاركني لحظة شغف خاص، ويساهم معي في الترويج لملامح هويتي الحضارية، وربّما العمل على إنقاذها". في السياق، يرفض الحاج أحمد مجرّد التفكير في بيع إحدى قطعه الأثرية، على الرغم من العروض الكثيرة التي يتلقّاها.



بهدف تفادي احتمال حاجته إلى المال، وتأمين احتياجات أسرته، يمارس الحاج أحمد النحت وينجز لوحات تشكيلية، مستخدماً الرمل المستخرج من آبار المياه، ويبيعها للسياح. ما يثير الانتباه أنّه في هذه كذلك، لا يتخلّى عن هوسه بخدمة الثقافة الجزائرية، إذ يعمد إلى تضمين لوحاته رموزها الإنسانية والمكانية والتاريخية، لا سيما الأمازيغية منها. هو واحد من البارعين في دراسة التقويم الأمازيغي باللهجة الشلحية الأمازيغية. "أعلم أنّ لوحتي سوف تسافر إلى مكان ما خارج البلاد، وسوف تصبح سفيرة لها بطريقة ما. فلماذا أفوّت فرصة الترويج لثقافتي من خلالها؟".

منذ 12 عاماً، يقضي الحاج أحمد ليالي عدّة من الشهر في البراري، لمواجهة الصيد العشوائي وحماية الحيوانات والطيور المهدّدة بالانقراض. "وقد حدث أن واجهت أسلحة الصّيادين الذين يرون حركتي عرقلة لهم بصدري العاري، وكنت مستعداً للتضحية والموت من أجل كائنات تشاركنا الفضاء والعطاء، لكنّها تذهب ضحية جهل البعض لدورها في تحقيق التوازن البيئي".

ويسأل بحرقة: "ما هذا الزمن الجزائري الذي بتنا لا ندرك فيه لا قيمة الإنسان ولا المكان ولا الحيوان؟". وفي هذا إشارة إلى السد الذي يجهز قريباً في المنطقة والذي سوف يلتهم موقعاً أثرياً يضمّ قبوراً على شكل أهرامات بدائية، يتراوح عمرها ما بين ثمانية آلاف و12 ألف عام، وكذلك إشارة إلى منطقة جبل الأزرق وجبال القعدة، حيث مواقع أثرية وسياحية مهملة تعود إلى العصرَين الحجري والبرونزي وحتى إلى النيوليتي.

دلالات