رمضان كندا.. هناك تعرف نقاء روح التعايش

24 يونيو 2016
يزداد النقاش حول ممارسة الواجبات الدينية (Getty)
+ الخط -
شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية تتكرّر كلّ عام، ويتزامن الأمر مع بداية فصل الصيف. يسخر البعض من الأمر، على الرغم من أن الجميع يعي أن الفصول عند قطبي الكوكب تختلف كثيراً عما هي عليه عند خط الاستواء أو المناطق المعتدلة. إلا أن فكرة بقاء النجمة الأشهر في هذا العالم ساطعة طوال اليوم تبدو لهم غريبة.

في الحقيقة، قليلة هي البلدان التي تشعر بعض مناطقها بهذه الظاهرة. عددها ثمانية، وكلّما نتوجّه شمالاً، تبقى الشمس ساطعة في السماء، لتصل إلى مرحلة تحضر فيها خلال ستة أشهر كاملة، وتغيب عن النصف الآخر من العام. ربّما تتأقلم المجتمعات الصغيرة التي تعيش في المناطق المتأثرة بهذه الظاهرة لناحية تقسيم أوقات العمل والراحة وتأمين المؤن والحاجيات. لكن يُصبح الأمر محيّراً جداً حين يتعلّق الأمر باحترام الواجبات الدينية. أبرزها تلك التي يفرضها شهر رمضان، أي الامتناع عن الطعام والشراب منذ لحظات الفجر الأولى وحتّى غياب الشمس.

كندا هي من بين البلدان الأكثر تأثراً بهذه الظاهرة من خلال مناطقها الفدرالية الثلاث، والتي يبلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة تقريباً، وهي يوكون، نونافوت، والأراضي الشمالية الغربية. ومثل باقي البلدان الشمالية التي تتأثر بتطرّف المواسم نظراً لقربها من القطب، يتخذ النقاش حول موجبات رمضان وفرائضه بعداً خاصاً في هذه البلاد.

في أحد المنازل الكنديّة الجميلة المطلّة على الضفة الشمالية لمونتريال، ومع حلول المغيب، تتغلّب اللبنانية المقيمة فيه على تعب الصوم، والذي يصل إلى نحو 18 ساعة. تتحدّث بشغف عن تجربة رمضان في بلاد باتت موطنها منذ نحو ثلاثة عقود. قبيل موعد الإفطار، تستذكر مقالاً تصفّحته خلال تحضيرها الفتوش وحساء العدس، عن بلدة في الشمال الكندي، حيث يعاني السكان من تأثير النصف الشمالي من الكوكب. تقول إن الحل الذي اعتُمد للعائلات المسلمة التي تعيش هناك هو أن يحلّ الإمساك والإفطار عندهم مع توقيت مدينة مكّة. "هكذا يكون احترام الفرائض الدينية في بيئة متسامحة ومرنة"، تقول. تضيف: "يجب أن تكون جميع المقاربات للدين والواجبات الدينية مرتبطة بالشعور الفعلي بالاحتياجات".

تضعُ على مائدتها أطباقاً مزيّنة بألوان الشرق الأوسط الذي تحنّ إلى جماله وأهله ورمضانه. لكن "للأسف، قضوا على كل شيء جميل في بلادي. في كندا، أشعر أن الحالة الروحية التي تبعث على الصيام أكثر نقاءً".

يزداد النقاش حول ممارسة الواجبات الدينية، وتحديداً في المجتمعات المسلمة المهاجرة في كلّ مرّة يحلّ فيها رمضان. مثلاً، هل شرط السفر مسافة تتعدى الـ 25 كيلومتراً ما زال منطقياً كي يكسر المرء صيامه؟ "هناك من أضحى يُخطّط كي تكون معظم أيامه الرمضانية عبارة عن أسفار لتجنّب صعوبة الصيام في كندا"، يقول أحدهم وهو يرتشف فنجان قهوة بعد الإفطار. "أستغرب كيف يجهد البعض لإقناع أنفسهم بسلامة هذا الشرط"، يُعلّق آخر. "حالة الإفطار خلال السفر كانت منطقية خلال التنقّل في الصحاري على ظهر الجمال. أما اليوم، فلا يُمكن المناورة وأنت تقود سيارة ألمانية".

على الرغم من هذا النقاش، إلا أن الأهمّ بالنسبة للكنديين، هو المعنى الحقيقي للصيام، والترفّع عن الحاجات الأساسية ونقاء الروح. ولعلّ إحدى أبرز المحطات على سكة التسامح هذه كانت الكلمة الافتتاحية التي ألقاها النائب الكندي، مارك هولاند، خلال انعقاد الجلسة البرلمانية عشية بدء شهر الصيام. "الأسبوع المقبل يحتفل مئات الآلاف من الكنديين ببداية رمضان. وفي دائرتي هناك الآلاف وفي العالم مئات الملايين". أضاف: "أودّ أن أستغلّ هذه الفرصة كي أتمنّى لكلّ الذين يحتفلون بهذا الشهر رمضان مبارك. العام الماضي، صمت طوال الشهر، وهو أمر سأكرّره هذا العام".


تحدّث النائب في سياق الدعوة إلى تقديم الدعم والتبرعات لجمعية خيرية "أعطِ 30"، وتعمل على إعطائه إلى الأكثر حاجة، وتحديداً مراكز الطعام (بنوك الطعام). "عندما صمت، كانت تجربة الشعور بالجوع رائعة، وقد حظيت بالراحة في نهاية اليوم - أي بعد الإفطار. لكن بالنسبة للعديد من الأطفال، ولسوء الحظ في كندا والعالم، فإن تلك الراحة لا تحل. هذه الجمعية الخيرية تساعدهم على التحضير لذلك. علينا التأمّل ومساعدة الغير".

لاقت دعوة النائب هولاند تفاعلاً إنسانياً على شبكات التواصل الاجتماعي، وتحديداً في أوساط المجتمعات المسلمة. كان واضحاً مدى تأثيرها أيضاً في أوساط المجتمعات المسلمة في أوروبا، إذ يتزايد الشرخ بين الثقافات المختلفة في ظل تعاظم الأصوات المتطرفة. شرخٌ يولّد عنصرية بغيضة يجدها البعض مبرّرة، وتجد إليها الأحزاب اليمينية سبيلاً.

في رسالتها الخاصة برسالة الجمعية المذكورة، تقول الناشطة زرقا نواز، وهي كاتبة وصاحبة فكرة المسلسل التلفزيوني الفكاهي "المسجد الصغير في المروج" إن "رمضان كندي بامتياز، بقدر ما هي الفطائر المحلاة وشراب القيقب، طبعاً بعد الإفطار". المسلسل الشهير الذي بُثّت أولى حلقاته عام 2011، يتطرق إلى أحوال مجتمع مسلم في بلدة صغيرة متخيّلة في مقاطعة ساسكاتشوان في الوسط الكندي، اسمها ميرسي، وكيف أن المؤسسة الرئيسية التي ترعى أحوال أبناء هذه البلدة هي المسجد الإسلامي. في كلامها عن العطاء برمضان، تنطلق الكاتبة من نواة الأخلاق الكندية في البلدات الكثيرة المنتشرة حول المراكز المدنية، والتي تُشكّل مختبراً رائعاً للوافدين الجدد لاختبار الطيبة الكندية الأصلية. عنها تقول: "كن كندياً، كن طيباً، كن معطاءً، والأهم، ادعم جمعية أعطِ 30".

في هذا الإطار، هناك من يجهد ليُقدّم الإسلام بصورة الاعتدال الملائم للعصر والعيش المشترك مع باقي الأديان والمعتقدات في مجتمعات مدنية وحقوقية. ربّما من حسن حظّ كندا ومجتمعاتها المسلمة أن موجة الإرهاب المتطرّف تزامنت مع وصول ليبراليين إلى سدّة الحكم الفدرالي. لو أن المحافظين ربحوا الانتخابات البرلمانية عام 2015، وعدّل هؤلاء سياستهم التهميشية بحقّ الأقليات، لربما كان رمضان كندا أقل تسامحاً.