تتواصل في مدينة يكاتيرينبورغ الروسية الواقعة في منطقة الأورال الفاصلة بين قارتي أوروبا وآسيا، 1700 كيلومتر شرقي موسكو، منذ منتصف مايو/ أيار الماضي، احتجاجات رافضة لإقامة كنيسة القديسة يكاتيرينا محل حديقة عامة أمام مسرح الدراما في وسط المدينة.
وحتى الآن، استقر الأمر على إعلان السلطات المحلية يوم الجمعة 31 مايو، عن تحديد خمسة مواقع محتملة لبناء الكنيسة، بما فيها موقع الحديقة نفسه، على أن يجري اختيار ثلاثة منها لاحقاً وطرحها في إطار استفتاء. ولما كانت الاحتجاجات تخللتها عشرات الاعتقالات، تجاوزت القضية نطاقها المحلي، متحولة إلى الشغل الشاغل للرأي العام الروسي في عموم أنحاء البلاد، وحلقة جديدة من المواجهة بين المجتمع المدني والدور المتزايد للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في مختلف الشؤون. ولم يبقَ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بمنأى عن القضية، بل دعا السلطات المحلية إلى التوصل إلى حلّ يرضي جميع السكان.
لكنّ بطريرك موسكو وعموم روسيا، كيريل، من جهته، اعتبر أنّ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تواجه في أحيان كثيرة "غضباً غير مبرر" مؤكداً أنّها لن تضيّق على أحد. مع ذلك، أقرّ أنّه يجري بناء ثلاثة دور عبادة يومياً كمعدل في روسيا حالياً، مشدداً على ضرورة وجود أماكن للتقرب من الخالق بعد سنوات من الإلحاد في الحقبة السوفييتية. ووفق تقديرات كنسية، ففي حال الاستمرار في بناء دور العبادة بهذه الوتيرة، فإنّ عدد الكنائس في روسيا قد يرتفع من نحو 40 ألفاً حالياً إلى ما بين 70 ألقاً و80 ألفاً بعد 30 عاماً.
وفي هذا الإطار، يحذر مؤسس "لجنة إنقاذ الحديقة"، المحامي والناشط، إيفان فولكوف، من أنّ بناء الكنيسة محل الحديقة سيكون بمثابة قطع "رئة" المدينة. ويقول فولكوف في حديث إلى "العربي الجديد" من يكاتيرينبورغ: "نعتبر أنّه حان وقت تكوين مجتمع مدني حقيقي في روسيا، لأنّ السلطة تستطيع عمل ما تشاء. نحن لا نعارض الكنيسة، وإذا أردتم بناءها، فابنوها، لكن لا تقطعوا رئة المدينة". ويتساءل مندهشاً: "ألا يمكن بناؤها في مكان آخر؟".
وعن موقفه من بناء الكنائس بهذه الوتيرة العالية في روسيا، يضيف: "تمت، منذ زمن، استعادة كل ما هُدم خلال الحقبة السوفييتية، بل تحولت الكنائس إلى متاجر ومراكز تجارية، وحتى الشموع أصبحت مقابل مال. نعارض فكرة تأسيس: شركة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. كان من الأفضل أن يبنوا ثلاث مستشفيات يومياً أو ملاعب رياضية في أفنية المباني".
ويتابع فولكوف: "نحن دولة علمانية، وجرى فصل الدين عن الدولة بموجب الدستور، لكنّ الكنيسة هي التي تزرع الفتنة، ونحن مستاؤون من هذا الوضع الذي يظهر من هو الحاكم الفعلي في البلاد، أي السلطة نفسها وطبقة الأوليغاركيا (طواغيت المال) والكنيسة الأرثوذكسية الروسية".
يشير إلى أنّ أبرز مطالب لجنته إجراء استفتاء محلي حول مصير الحديقة، لكنّ السلطة تخشى من ذلك، متخوفة من انطلاق سلسلة من مثل هذه الاحتجاجات في عموم أنحاء روسيا: "نتصرف بشكل سلمي وفي إطار القانون، ويشارك في احتجاجاتنا آلاف الأشخاص، إذ إنّ هناك قطاعاً عريضاً من السكان يريد التغيير. سنتقدم بطلب إجراء الاستفتاء، وسنلجأ إلى القضاء بجميع مستوياته في حال قوبل طلبنا بالرفض".
وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها احتجاجات في روسيا بسبب توسع صلاحيات السلطة الكنسية، إذ شهدت العاصمة الشمالية الروسية سان بطرسبورغ، احتجاجات واسعة في عام 2017 بسبب نية السلطات المحلية تسليم كاتدرائية القديس إسحق المتحفية إلى عهدة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. ويذكر فولكوف أنّ "ما يجري في يكاتيرينبورغ وجد لنفسه صدى في جميع المدن الروسية، بما فيها سان بطرسبورغ، إذ تواصل معنا منسقو حملة عام 2017، ويشاركوننا أساليبهم في الدفاع عن قضيتهم".
من جهتها، أشارت صحيفة "ريبابليك" الروسية إلى أنّ سعي الكنيسة الأرثوذكسية لإقامة دار عبادة في كلّ حيّ من أحياء المدن الكبرى يعود إلى البحث عن مواكبة نسبة 65 إلى 75 في المائة من سكان البلاد الذين يعتبرون أنفسهم أرثوذكساَ، وفق استطلاعات الرأي. مع ذلك، شككت الصحيفة في دقة هذا التقدير، مشيرة إلى أنّ هذه النسبة العالية تعكس الهوية الثقافية والقومية للمواطنين، بينما لا تزيد نسبة المترددين فعلياً على الكنائس عن 14 في المائة كحد أقصى، بحسب مختلف الاستطلاعات.
بدوره، أظهر استطلاع أجراه "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" أنّ 58 في المائة من سكان يكاتيرينبورغ يعارضون بناء الكنيسة في محل الحديقة العامة. وكان من المقرر في الأساس أن يجري استكمال أعمال بناء الكنيسة بحلول عام 2023 بكلفة قُدرت بنحو 50 مليون دولار، لكنّ الاستعدادات لبدئها توقفت منذ تدخل بوتين في القضية.