فردانية في تركيا

04 أكتوبر 2017
تلاعب طفلها (سابان كيليسي/ الأناضول)
+ الخط -
يختبر المجتمع التركي تغيّرات كبيرة، خلال العقد الأخير، على مستوى بنيته، لناحية زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم، وانخفاض عدد أفراد الأسرة،  وانحسار نسبة العائلات الممتدة التي تعيش في بيت واحد. ويعزو باحثون أتراك الأمر إلى أسباب عدة، منها ارتفاع نسبة التحاق الأتراك بالجامعات، وارتفاع مستوى الدخل، واتجاه المجتمع التركي نحو الفردانية التي تتميز بها بنية المجتمعات الصناعية.

وبحسب المركز التركي للإحصاء التابع لرئاسة الوزراء، واستناداً إلى العناوين التي يضعها المواطنون في إدارة الشؤون المدنية (النفوس)، شهدت تركيا ارتفاعاً كبيراً في عدد الأشخاص الذين يعيشون لوحدهم بين عامي 2010 و2016. في عام 2010، كان عدد الأشخاص الذين يعيشون وحدهم مليوناً و720 ألفاً و238 شخصاً، ليرتفع الرقم في عام 2016 إلى الضعف أي ثلاثة ملايين و316 ألفاً و894 شخصاً، أي 14.4 في المائة من عموم الأسر التركية.

وبحسب المركز التركي للإحصاء، يتوزّع العدد الأكبر للأشخاص الذين يعيشون وحدهم في مدينة إسطنبول، وتبلغ حصّتها 564 ألفاً و873 شخصاً، تليها أنقرة بـ 227 ألفاً و29 شخصاً، ثم مدينة إزمير بـ 225 ألفاً و243 شخصاً. وتحتلّ مدينة تونجلي (ديرسيم) المرتبة الأولى في ما يتعلق بنسبة الأشخاص الذين يعيشون وحدهم، والتي تقدر بنحو 23.5 في المائة من عموم السكان، في وقت تحتل مدينة دياربكر (شرق) المرتبة الأخيرة بنسبة 7.7 في المائة.

وتقول دويغو علمدار (35 عاماً)، والتي تقيم في إسطنبول: "أعيش لوحدي لأسباب عدة. بعدما انفصلت عن زوجي، لم أرغب في السكن مع والدي ووالدتي. كنتُ في حاجة إلى البقاء وحيدة. كذلك، لم أرغب في التخلّي عن الحرية التي اعتدت عليها حين كنت متزوجة. اعترض أهلي في البداية، إلّا أنّهم عادوا وتقبلوا الأمر، وساعدهم على ذلك قلة الانتقادات التي سمعوها من الآخرين حول عيش مطلقة بمفردها".



من جهته، يقول أحمد حاقان (45 عاماً) إنّ العيش في منزل مستقلّ يعدّ متعة كبيرة. "أنتظر الوقت الذي أنهي فيه عملي فأعود إلى المنزل وأستمتع بالهدوء. لديّ صديقتي ولم أتزوّج حتى الآن. لستُ تعيساً، وقد اعتدت على الحياة وحدي منذ أن التحقت بالجامعة. كان العيش في منزل خاص بي إحدى أكبر أمنياتي، ولا أرغب في الاستغناء عنها".

شباب ومسؤوليات أقل (بولنت كيليك/ فرانس برس)


أمّا أيلين كوجار، وهي مدرّسة علم النفس السريري في جامعة "كمبربوغاز" في إسطنبول، فتقول، إن أحد الأسباب الأساسية لارتفاع نسبة الأشخاص الذين يعيشون وحدهم، يرتبط بالتحاق الشباب في الجامعات أو البحث عن عمل، إضافة إلى رغبة الشباب في الاستقلال الاقتصادي بعد الحصول على عمل. بالتالي، يُصبح التخلّي عن هذه الاستقلالية صعباً. ويترافق ذلك مع تأخّر سن الزواج خلال العقد الأخير، إضافة إلى الانفصال المبكر عن العائلة، والقدرة على التحكم في الحياة الشخصية، والابتعاد عن التقاليد. كذلك، تغيّرت نظرة المجتمع للزواج، ولم يعد المجتمع يضغط على الشباب للزواج بسن مبكر. وصارت النساء أكثر رغبة في التعلّم. واستبدلت النساء عبارة "أتزوّج وأنقذ نفسي" بـ "أتعلم وأعمل وأحمي نفسي".

تضيف كوجكار، أنّ وسائل التواصل الاجتماعي، واختلاف نوعيّة الحياة، تؤدي إلى مزيد من الوحدة، والتي لم تعد أمراً سيئاً يشعر الناس برغبة في الهرب منها، بل بات عادياً. كما أن المدن الكبيرة سمحت للشباب بإقامة علاقات عاطفية لسنوات من دون زواج، وبالتالي يحافظون على الفردية.

وترى أستاذة علم الاجتماع في جامعة كمبربوغاز، توبا دميرجي، أنّ المجتمع التركي يعيش تحوّلات سريعة، منها التمدّن والانتقال إلى المدن الكبرى، إضافة إلى التغيّرات في القيم الاجتماعية. منذ عام 1960، لم تعد العائلة الممتدة نمطاً اجتماعياً، تزامناً مع المكننة والهجرة من الريف إلى المدن والتطور الصناعي، لتحل محلها الأسرة الصغيرة.

تضيف دميرجي: "ترافق ذلك مع ارتفاع نسبة التعليم، حتى بات المواطن يحتاج إلى مزيد من الوقت للتعلّم في المدن الكبيرة، والتي غالباً ما تكون خارج مكان سكن أسرته، إضافة إلى ارتفاع سن الزواج. وفي أحيان كثيرة، لم يعد الزواج خياراً جاذباً، خصوصاً في المدن الكبيرة، التي تمنح الأشخاص أموراً كثيرة تساعدهم على الحفاظ على الفردية". وتؤكّد أن الأمر لا يتعلّق بتركيا بل هو توجّه عالمي، ترافق مع ما يمكن أن نسميه الحداثة والفردانية. ولم تعد الأسرة تلك المؤسسة الضرورية التي تقدم العواطف. اجتماعياً، الرجل ليس في حاجة إلى أن يكون متزوجاً وصاحب أسرة. من جهة أخرى، لم يعد ترك بيت العائلة والاستقلال في السكن "عاراً كما في السابق، حتى بالنسبة للمرأة".