يمضي خبراء الاجتماع وعلم النفس في مصر بالتحذير من ارتفاع وتيرة الانتحار في البلاد. وتكثر العناوين ذات الصلة على صفحات الحوادث، في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها البلاد وتفاقم الأعباء المالية على الأسر المصرية، ولا سيّما أنّ 45 في المائة من الأسر تعيش تحت خط الفقر.
أتى اكتشاف ثلاث حالات انتحار في محافظة الفيوم، جنوب غربي القاهرة، أخيراً، ليدفع منظمات حقوقية مصرية عدّة إلى المطالبة بضرورة مواجهة "الظاهرة الخطرة". وكان شابان وشابة قد أقدموا على الانتحار بطرق مختلفة، أوّلهم هاني صدقي (33 عاماً)، الذي عثر جيرانه على جثته في حالة تحلل كامل بعدما تسرّبت رائحة كريهة من شقته التي يقطنها بمفرده. وقد أفادت أسرته بأنّه كان يمرّ بظروف مالية صعبة ويرزح تحت الديون. كذلك، تلقّت أجهزة الأمن بلاغاً يفيد بمصرع محمد أحمد (27 عاماً)، بعد تناوله سمّ فئران على خلفية مشكلات مادية. أمّا الحالة الثالثة، فهي حالة انتحار مستورة محمد (35 عاماً)، التي أغرقت نفسها بسبب أوضاعها النفسية السيئة. وفي السياق، كان ستّة أشخاص قد أقدموا على الانتحار في محافظة الجيزة في خلال الشهر الماضي، بسبب ظروف نفسية وخلافات أسرية على خلفية الأعباء الاقتصادية التي تعانيها أسر كثيرة.
تفيد منظمات حقوقية مصرية، من بينها "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات"، بأنّ العام الجاري، 2018، شهد أكبر عدد من ضحايا الانتحار بوسائل مختلفة للهروب من الضغوط نتيجة غلاء العيشة وتفشّي البطالة بين الشباب. وقد أكّدت إحدى المنظمات أنّ العدد فاق 496 حالة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بواقع أكثر من أربع حالات يومياً، و53 في المائة من تلك الحالات من فئة الشباب. يُضاف إلى هؤلاء الضحايا شباب كثر لجأوا إلى الهجرة غير الشرعية بحثاً عن لقمة العيش، الأمر الذي تسبب في وفاة مئات منهم غرقاً في البحر. في سياق متصل، وصلت أكثر من 18 ألف حالة إلى "مراكز السموم" في المحافظات، معظمها من الرجال، نتيجة إصابتهم بحالات تسمم مختلفة. أُنقِذ عدد منهم، في حين لقي الباقون حتفهم بسبب شدّة حالات التسمم.
وأشارت تقارير المنظمات الحقوقية المصرية إلى أنه لم تصدر عن وزارة الصحة إحصاءات واضحة بعدد حالات وفاة التسمم، محذرة من أن نسبة كبيرة من الشباب تعاني من مشكلات خطيرة، وأصبح الانتحار حاضراً لدى تلك الشريحة، والظاهرة باتت تزحف على فئة من الأطفال، ما يعني خطورة متصاعدة على الأجيال القادمة. ورصدت المنظمات الحقوقية المصرية أن حالات الانتحار تجاوزت حاجز الـ400 حالة خلال عام 2017، وهو ما يؤكد ارتفاع حالات الانتحار مقارنة بالعام الجاري، وتأتي محافظة الفيوم الأولى من بين المحافظات في حالات الانتحار، بسبب الأعباء الاقتصادية التي تقرّها الحكومة.
ويصف المتخصصون في علم الاجتماع وعلم النفس الانتحار في مصر بأنّه "ظاهرة خطيرة" لا بدّ من وضعها تحت المجهر، خصوصاً في ظل تصاعدها يوماً بعد يوم. ويرى الباحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الدكتور سيد إمام، أنّه "لا تتوفّر في مصر إحصاءات رسمية حول عدد حالات أو محاولات الانتحار، وتتحفّظ الجهات الرسمية كثيراً على نشر مثل تلك البيانات لأسباب مختلفة". ويشرح أنّ "أحد تلك الأسباب قد يكون عدم إثارة الفزع في المجتمع، أو منع تصدير صورة سلبية عن أحوال المجتمع إلى الخارج"، مضيفاً أنّ "الحال السيئة التي تمرّ بها الدولة من كلّ النواحي تُعَدّ سبباً يدفع البعض إلى التخلص من حياته التي لا يرضى عنها والتي لا أمل لديه بتحسّنها". ويشير إمام إلى أنّ "الفشل واليأس والإحباط والعيش بلا هدف جعلت عدداً كبيراً من الشباب يفكّر في الانتحار. حالات انتحار كثيرة ترجع إلى "زيادة معدلات الفقر والبطالة، وعدم القدرة على الإنفاق، وارتفاع أسعار السكن، والعنوسة، والمرض. أمّا الفئة العمرية الأكثر إقبالاً على الانتحار فهي 25 - 40 عاماً".
من جهته، يقول أستاذ الطب النفسي في جامعة الفيوم، الدكتور الحملاوي صالح، إنّ "للانتحار أسباباً متعددة، تختلف ما بين نفسية واجتماعية واقتصادية. ويلجأ البعض إلى التخلص من حياته بأيّ وسيلة تكون بمتناوله، وذلك في لحظة يأس، بعيداً عن عيون المجتمع". ويوضح أنّ "نسب الاكتئاب ارتفعت في المحافظات المصرية"، مطالباً "كل المنظمات الحكومية وغير الحكومية، بوضع حدّ لعمليات الانتحار التي صارت ظاهرة خطرة ووحشاً يهدد المجتمع المصري".