منظمات وجمعيات إنسانية تنشط في مجالات مختلفة ترتكز في جزء كبير من تمويلها على التبرّعات والهبات التي يقدّمها الناس. في فرنسا، ثقافة التبرّع شائعة.
يُعَدّ الفرنسيّون كرماء عندما يتعلق الأمر بالتبرّع لمنظمات وجمعيات طبية، خصوصاً مراكز البحوث الطبية. لكنّ التبرّعات في البلاد لا تُحصَر في مجالَي الطب والبحث العلمي، بل تُخصّص كذلك لأعمال الإغاثة وغير ذلك. في المدّة الأخيرة، وكما هي الحال عند اقتراب نهاية كلّ عام، كثرت نداءات المؤسسات والجمعيات في هذا الخصوص وتعدّدت حملات التبرّع التي نظّمتها جهات من قبيل الصليب الأحمر الفرنسي وجمعيات الإغاثة الكاثوليكية والإسلامية والشعبية وغيرها. لكنّ استطلاعاً للرأي أعدّه معهد "أودوكسا" ونشره في 25 سبتمبر/ أيلول 2019، كشف انخفاضاً في العطاء بالمقارنة بالسنوات الماضية. ويقرّ 74 في المائة من الذين شملهم الاستطلاع بأنّ الأزمة الاقتصادية التي يشكو منها أهل البلاد تؤدّي دورها في انخفاض "الكرم". يُذكر أنّ ثلث المشمولين في الاستطلاع تبرّعوا هذا العام، بمبلغ 225 يورو (متوسّط)، وهو ما يعني انخفاضاً عن عام 2018 الذي سبق قدره 21 يورو.
صحيح أنّ ثقافة التبرّع متجذّرة في المجتمع الفرنسي، غير أنّ مواطنين كثيرين يبدون حذرين في تعاملهم مع المنظمات والجمعيات ذات الطابع الخيري، إذ إنّهم ما زالوا يذكرون فضيحة مؤسسة "آرك" المتخصصة في أبحاث السرطان، على الرغم من مرور أعوام طويلة عليها. ففي عام 2000، أدين مؤسسُها جاك كروزماري على خلفية اتهامات بخيانة الأمانة واختلاس أموال عامة، وحُكم عليه بالسجن أربعة أعوام وبغرامة قيمتها 2.5 مليون فرنك فرنسي (381 ألف يورو)، بالإضافة إلى 200 مليون فرنك (30 مليوناً ونصف مليون يورو) كتعويض وفوائد لمؤسسة "آرك".
ويدفع الحذر هؤلاء الفرنسيين إلى التأكد من مصير تبرّعاتهم، الأمر الذي يجعلهم يتّجهون مباشرة إلى مساعدة أفراد أو جمعيات صغيرة، بدلاً من تلك الكبيرة. وبينما تؤكد البيانات أنّ الفرنسيين الذين يلجأون إلى التبرّع يفضّلون بمعظمهم تخصيص هباتهم من أجل البحوث العلمية، خصوصاً الطبية، يُسجَّل اهتمام بالبيئة التي تُعَدّ "على الموضة" اليوم، علماً أنّ الأحزاب السياسية تبدي كذلك اهتماماً بهذا المجال. بالتالي، تتزايد أعداد الراغبين في التبرّع من أجل حماية البيئة.
والفرنسيون ليسوا متساوين في العطاء، بحسب دراسة "أودوكسا" نفسها، أمّا الأسباب فتختلف. ويُحكى عن 40 في المائة يعترفون بأنّهم تبرّعوا بمبالغ تتراوح ما بين يورو واحد و50 يورو في العام الواحد، في حين أنّ تبرّعات 24 في المائة تتراوح ما بين 51 يورو و101 يورو، و30 في المائة ما بين 101 يورو و300 يورو. وقد تجاوز أربعة في المائة في هباتهم مبلغ 1000 يورو. ولا تركّز الجمعيات على كبار السنّ في بحثها عن التبرعات، من باب الصدفة، فالاستطلاع يبيّن أنّ من يتجاوز 65 عاماً يُقدّم ضعفَي ما يقدّمه الشباب تقريباً.
وبهدف تفادي الشكوك التي قد تراود الراغبين في التبرّع، تنشر الجمعيات التي تتلقّى الهبات، وبشكل متزايد، كشوفات عن كلّ المبالغ التي تتلقاها وتعرض كيفية إنفاقها. لكن، على الرغم من الجهود التي تبذلها الجمعيات، وبسبب الفضائح التي تظهر من حين إلى آخر، فإنّ 59 في المائة من الذين خفّضوا قيمة تبرعاتهم يعبّرون عن شكوك حول الطريقة التي تُستخدَم فيها أموالهم. وكلّما كانت الشفافية أكبر كانت الرغبة في العطاء أقوى، باعتراف 83 في المائة من المستطلعة آراؤهم.
بالعودة إلى البحوث الطبية، فهي تحتلّ الصدارة، وما زال الفرنسيون الفخورون بالمستوى المتقدّم لبلدهم في المجال الصحي يتبرّعون أكثر حتى "تحافظ فرنسا على ريادتها". بالتالي، يفضّل 41 في المائة التبرّع من أجل البحوث الطبية ومكافحة الأمراض، في حين أنّ 31 في المائة يتبرّعون لجمعيات تكافح الفقر، و30 في المائة لحماية الطفولة، والنسبة نفسها لحماية الحيوانات، و28 في المائة لمساعدة المرضى والأشخاص ذوي الإعاقة، و26 في المائة لحماية البيئة. يُذكر أنّ العنوان الأخير يجذب الفئات الشبابية أكثر من غيرها، مع 37 في المائة من المتبرّعين.
تجدر الإشارة إلى أنّ لاعب كرة القدم الفرنسي السابق والمدرب الحالي، من أصول جزائرية، زين الدين زيدان، منخرط في هذا المجال ويعمل على استغلال اسمه وشهرته بطريقة إيجابية من خلال رعايته جمعية "إيلا" (الجمعية الأوروبية لمكافحة حثل المادة البيضاء). ويحضر زيدان اجتماعاتها وينظّم مسابقات رياضية بمشاركة لاعبي كرة مرموقين، يذهب ريعها إلى الجمعية، بالإضافة إلى أنّ زيدان يرتبط بعلاقات وطيدة مع عائلات المرضى.
وفي الأيام الأخيرة من عام 2019، أطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال قنوات تلفزيونية نداءات من جمعيات خيرية وقانونية عربية تحثّ أفراد الجالية العربية على التبرّع مادياً حتى تستفيد من خصم يصل إلى 66 في المائة من ضرائبهم. ومن بينها "التجمّع ضدّ الإسلاموفوبيا" الذي هدف إلى جمع تبرّعات تصل إلى 200 ألف يورو، لكنّه لم ينجح في تحصيل إلا 140 ألف يورو. وتُعَدّ مثل هذه المبالغ ضرورية لتوفير الحماية القانونية لضحايا العنصرية والتمييز والوصم في فرنسا، من عرب ومسلمين. يُذكر أنّ حجم ما يتبرّع به العرب في فرنسا يبقى غير معروف بشكل دقيق.