اعتصام السودانيين... تنظيم دقيق حرصاً على الثورة

01 مايو 2019
في ميدان الاعتصام (أوزان كوزيه/ فرانس برس)
+ الخط -

لا يستمرّ تحرّك اجتماعي أو سياسي أو غير ذلك، من دون تنظيم يضبط المشاركة من النواحي المختلفة. هذا ما أدركه المعتصمون في السودان وحرصوا عليه

على مقربة من مقرّ القيادة العامة للجيش السوداني في الخرطوم، عند أحد المداخل التي يعبرها المحتجّون السودانيون في طريقهم إلى موقع اعتصامهم، تجلس ملاذ عادل وأمامها صندوق بلاستيكي ومكبّر صوت صغير. من خلال مكبّر الصوت ذاك، يُطلب من الداخلين إلى ميدان الاعتصام التبرّع بما يستطيعون من مال لتوفير مأكولات ومشروبات للمعتصمين.

والاعتصام بالقرب من قيادة الجيش السوداني كان قد بدأ في السادس من شهر إبريل/نيسان الماضي، للمطالبة بتنحّي الرئيس السوداني عمر البشير وإلغاء النظام القائم، وهو مستمرّ على مدار ساعة؛ إذ إنّ الآلاف يصرّون على المبيت في المكان، خشية إقدام السلطات الأمنية على فضّ اعتصامهم. يُذكر أنّه في الحادي عشر من الشهر نفسه، عُزل البشير بواسطة نائبه الأول عوض بن عوف، لكنّ المعتصمين وقوى المعارضة رفضوا ما حدث، فاستقال بن عوف وشُكّل مجلس عسكري. لم يرفض المعتصمون ذلك المجلس، غير أنّهم طالبوه بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، بالتالي هم ماضون في اعتصامهم.



تقول ملاذ عادل، التي تحرس صندوق التبرعات اليومية منذ اليوم الثالث للاعتصام، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المعتصمين على مدار الساعة لا يترددون في التبرّع بالمال. ونحن نجمع في اليوم الواحد نحو 30 ألف جنيه سوداني (نحو 500 دولار أميركي)". تضيف عادل أنّها تشارك في الاعتصام منذ بدايته، "وقد انضممت إلى لجنة الخدمات وعملت في مجالات مختلفة قبل أن أتوكّل أخيراً بمهمة جمع التبرعات عند أحد مداخل ميدان الاعتصام". وتلفت إلى أنّ "أكبر مبلغ تسلّمته باليد بلغ ثمانية آلاف جنيه (نحو 150 دولاراً) من أبناء حيّ بري شرقيّ الخرطوم".

من جهته، يقول زميلها أيمن محمد، الذي يجمع تبرّعات عند مدخل آخر من مداخل الاعتصام، لـ"العربي الجديد"، إنّ "التبرّعات تُجمَع في ثماني نقاط، واستجابة الناس كبيرة وتتماشى مع روح الثورة القائمة على قيم الجماعة والتكافل ومساعدة الناس بعضهم بعضاً". ويوضح محمد أنّ "مال التبرّعات يُسلّم إلى لجنة مختصة تصرفه على المأكل والمشرب"، مضيفاً أنّ "ثمّة متبرّعين يحضِرون في بعض الأحيان مساعدات عينية من قبيل الخضروات والسكّر واللحوم والعصير وغيرها". ويلفت محمد إلى أنّه تسلّم مرّة "25 ألف جنيه (نحو 450 دولاراً) من متبرّع قصد الميدان للمرّة الأولى، وأتى ذلك لحسن الحظّ في يوم نقصت لدينا المواد الغذائية". ويذكر محمد أنّ "مشرّدين كثراً في شوارع الخرطوم اعتادوا البحث عن بعض الطعام في مستوعبات القمامة، قصدوا الاعتصام للحصول على مأكل ومشرب وأفرشة".




في محيط الاعتصام، ثمّة مقرّ حكومي حوّله السودانيون المحتجون إلى مطبخ كبير يهيّئون فيه الطعام، وهو واحد من بين تسعة مطابخ موزّعة في المكان. في ذلك المطبخ، نحو 20 شاباً وشابة ينهمكون في إعداد الوجبات. يقول أحد المسؤولين هناك ويُدعى محمد عثمان العوض، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أكثر الوجبات التي تقدّم هي الفول والعدس والفراخ (الدجاج) وسلطة الباذنجان والبطاطس والأرز والكفتة، بالإضافة إلى حلويات وعصائر"، مشيراً إلى أنّ "مطبخنا يحتاج يومياً إلى نحو خمسة آلاف رغيف من الخبز". محمد آدم يحيى، من المسؤولين عن ذلك المطبخ، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "العصائر التي تُقدّم أبرزها البرتقال والليمون، بالإضافة إلى الشاي والقهوة". ويؤكد: "في أحيان كثيرة، لا نحتاج إلى شراء حاجيات للطبخ، إذ إنّ كثيرين يحضرون، من بينهم أسر، حاملين معهم مواد غذائية مختلفة. وبعضهم يأتي بالطعام جاهزاً ويسلّمه لنا، مثل الفراخ والكفتة".

نازك محجوب فضال، متطوعة في المطبخ، تخبر "العربي الجديد" أنّها قصدت الاعتصام "للانضمام إلى آلاف المعتصمين المطالبين بتنحّي النظام. وعندما شعرتُ بأنّني أستطيع تقديم خدمة إضافية، لم أتردّد. وانخرطت في لجنة خدمات المطبخ على مدار الساعة. وفي أوقات الاستراحة، أحاول الاستمتاع بالأنشطة الثقافية والسياسية في الميدان". وتعبّر عن سعادتها البالغة بما تقوم به "وبما أنجزته الثورة السودانية وبما سوف تنجزه في الأيام المقبلة". أمّا زميلها المتطوّع خالد المنصور، فمهمّته تقتضي، بحسب ما يشرح لـ"العربي الجديد"، توزيع الطعام في منطقة شارع البلدية المكلف بها، مشدداً على أنّه "لم ألحظ معتصماً واحداً أخذ أكثر ممّا يحتاجه من الطعام، وفي بعض الأحيان يتقاسم المعتصمون ساندويتش واحداً لضمان توفّر الطعام لغيرهم".



في السياق، تقول الباحثة الاجتماعية مزاهر إبراهيم لـ"العربي الجديد" إنّ "الشباب في ميدان الاعتصام استلهموا قيماً اجتماعية سودانية راسخة، والثورة السودانية أخرجت من المجتمع أفضل ما فيه". وتشرح أنّ "الصورة التي رسمها الشبان والشابات لأنفسهم مغايرة لصورة سابقة حاول البعض في فترة من الفترات رسمها، تشير إلى سطحيّة واهتمام بشؤون هامشية. لكنّهم وطوال أربعة أشهر أثبتوا العكس".

تتّفق الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم مع مزاهر إبراهيم، مؤكدة لـ"العربي الجديد" أنّ "مشاركة الشبان والشابات في التظاهرات والاحتجاجات خلقت وعياً بينهم حول أهميّة العمل الجماعي، خصوصاً أنّهم كانوا يواجهون خطراً واحداً (الضرب أو الاعتقال أو القتل). لذا أدركوا في هذه المدّة أنّ التضامن مطلوب، فنظموا أنفسهم لتوفير الحماية لأنفسهم في داخل الاعتصام من خلال نقاط أمنية أقاموها، وتشاركوا في جمع التبرّعات المالية وإعداد الطعام، وكذلك في تأديتهم طقوس عبادتهم". وتشير ثريا إبراهيم إلى أنّ "محيط قيادة الجيش السوداني تحوّل بالتالي إلى منزل كبير يشعر كلّ فرد فيه بمسؤولية لا بدّ من أن يضطلع بها"، مشددة على أنّ "ما حدث في الاعتصام ولّد سلوكاً إيجابياً حتى في الشارع السوداني عموماً". وتتحدّث عن "أهمية المحافظة على ذلك السلوك حتى بعد فضّ الاعتصام وعدم التفريط فيه، حتى يكون ركيزة لثورة اجتماعية بعد نجاح الثورة السياسية".




الأمر مرتبط بالثقة
أيمن محمد من القائمين على تنظيم شؤون الاعتصام، يقول إنّ "لا إجراءات محددة بخصوص كيفيّة ضبط المال للحؤول دون نهبه بطريقة أو بأخرى"، مؤكداً أنّ الأمر مرتبط بثقة الثوار في بعضهم البعض". ويؤكد أنّهم لم يضبطوا حتى اللحظة أيّ محاولة لاختلاس مبالغ من المال، مشيراً إلى "عدم منع أيّ معتصم من أخذ مبلغ من المال حتى يتمكّن من العودة إلى منزله، في حال لم يكن يملك تكلفة المواصلات".