يهرفون

20 يناير 2020
زهور لذكرى ضحايا الطائرة في كييف (بافلو غونشار/ Getty)
+ الخط -
بعيداً عن مواقف الدول والزعامات، وما فيها من اتجاهات ومسالك وتحالفات ومواقف ودعايات، كلّها يصبّ في خانة المصالح، فإنّ الجمهور نفسه يعاني من أزمة تضليل كبيرة، تشتد في حالة الجمهور العقائدي، الراضخ، من دون أيّ وعي غالباً، لأيديولوجيا عليا ترسم له كلّ الخطوات اللاحقة.

في مثال أخير، وليس وحيداً، كثرت الاتهامات من حول العالم، لإيران بإسقاط طائرة الركاب الأوكرانية. أنكرت إيران فأنكر كلّ من يواليها. وبالرغم من عرض القرائن لم ينظر أحدٌ من هؤلاء إلى أيّ شيء منها، فالرفض المطلق لكلّ ما لم تقله إيران هو الأساس. وبطبيعة الحال، فإنّ الجمهور الآخر المناوئ لإيران يرفض تماماً كلّ ما تقوله إيران في هذه القضية أو غيرها، تبعاً لأيديولوجيا مغايرة. لكنّ الأزمة التي وقعت أنّ إيران اضطرت للاعتراف، بعد أيام، أنّ جيشها بالفعل هو من أسقط الطائرة الأوكرانية، وإن نسبت ذلك إلى خطأ بشري غير مقصود من جندي لم يتلقَّ الأوامر بذلك، بسبب "تشويش في الاتصالات".

لكن، وقد تبيّن أنّ ما يدافعون عنه ويحللون فيه ويفسرون كاذب، هل تبيّن للجمهور أنّ تعصبه لرأيه، وإظهار نفسه ملكياً أكثر من الملك، لإلغاء كلّ رأي آخر يخالفه، استراتيجية فعّالة؟ بعد كلّ الخطاب الإلغائي غير العقلاني، في أقلّ وصف له، هل يتابع هؤلاء الأفراد الحياة بشكل عادي، ثم يعودون للقفز مجدداً في كلّ قضية، كأنّهم أرباب العلم والمنطق؟ يقول السوسيولوجي اللبناني، خليل أحمد خليل، في أحد أبحاثه: "لا تهرف بما لا تعرف" والهرف هو حديث المرء في هذيانه، والخلط في الكلام. هكذا، يتبين لنا أنّ المشكلة منهجية، وتكمن في التصدي الدائم لإبراز الفهم من دون علم، وهي أزمتنا الأكبر، المستفحلة مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي يسعى المستخدمون -ليسوا جميعاً- فيها، إلى استقطاب أكبر قدر من الاهتمام، والعقلانية تغيب غالباً عن المشاركات التي تلقى القدر الأكبر من الشعبية.




كلمة مباشرة للجمهور، كلّ جمهور، لا سيما من يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لتأييد هذا الزعيم أو ذاك، وهذه الدولة أو تلك: لستم خبراء في كلّ شيء، وهذا ليس عيباً أو نقيصة بحقكم، بل على العكس فإنّه "ليس من المعيب أن نعترف بجهلنا، لأنّ الاعتراف الصريح بأنّنا لا نعرف ما لا نعرفه هو من أهم مقومات التفكير العلمي" على ما يذهب إليه المفكر السوري، صادق جلال العظم.

هذا الضجيج الكبير جداً يحتاج إلى راحة طويلة، ونحتاج نحن معه إلى راحة أكبر من التعصب، والاستعراض، والتبجح، والإفحام، والإلغاء، والتكفير، والنرجسية الفارغة.
دلالات
المساهمون