لا توجد علاقات أكثر تعقيداً في الوقت الراهن من العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية والمالية بين واشنطن وبكين، وإن كان الصراع الجاري حالياً بينهما يتخذ الشكل التجاري، ولكنه يؤشر لنقطة البداية في الحرب الباردة على النفوذ العالمي. وربما يستخدم ترامب في هذا الصراع موسكو ضد بكين، كما استخدم الرئيس ريتشارد نيكسون الصين ضد الإمبراطورية السوفيتية في السبعينات.
وترى واشنطن، أن الصين تعمل من خلال النفوذ المالي والاقتصادي والتجاري حول العالم على تضييق الخناق على ميركا وإزاحتها تدريجياً من موقع الدولة العظمى.
وبحسب تعليقات النائب المساعد لمدير وكالة الاستخبارات المركزية" سي آي أيه" لقسم آسيا، مايكل كولينز، فإن بكين تخطط لحرب باردة ضد أميركا منذ سنوات، لكنها حرب باردة من نوع جديد حيث تستخدم فيها كل أشكال النفوذ والقوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية.
ويرى كولينز في حوار مع قناة "سي إن إن" في 21 يوليو/ تموز الماضي، أن الصين تستخدم النفوذ الاقتصادي والمالي في آسيا وأفريقيا ودول أميركا اللاتينية لتأكيد كسب هذه الدول عبر المصالح في المستقبل.
من جانبه، وصف السناتور الجمهوري، ماركو روبيو، يوم الأربعاء، النزاع التجاري الحالي مع بكين بقوله، "حان الوقت لنفتح أعيننا".
وأضاف: "نحن نخوض منافسة جيوسياسية ليس مع دولة زراعية فقيرة تحاول اللحاق بنا، بل مع قوة عظمى تحاول اعتراض طريقنا بشكل غير منصف، وبهدف أن تحل محلنا لتصبح الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً وجيوسياسياً وتقنياً في العالم".
وما يزعج أميركا منذ سنوات هو التقدم التقني الهائل والسريع الذي تحققه الصين وتستخدم منجزاته في تطوير صناعة الدفاع، حيث تمكنت بكين من التفوق التقني في البحث والاختراعات على اليابان واحتلت مكانتها الثانية بعد أميركا في العام الماضي 2017.
ووفقاً لبيانات منظمة الحقوق الفكرية العالمية، فإن البحوث العلمية والاختراعات تنمو في الصين بنسبة 13.4% سنوياً.
وفي حال الحفاظ على هذه النسبة، فإنها ربما تتمكن من التفوق على أميركا في سنوات قليلة بحسب محللين. ولاحظ خبراء عسكريون أميركيون، أن الصين تستخدم تقنية الذكاء الصناعي في تحديث المؤسسة العسكرية، وهو ما يهدد مكانة أميركا العسكرية ويمنح الصين الضربة الاستباقية في أية حرب كونية في المستقبل.
من هذا المنطلق، يرى ترامب أن الصين سرقت حقوق الملكية الفكرية من الشركات الأميركية والغربية عبر ابتزازها بدخول السوق الصيني الضخم، أي أنها خيّرتها بين دخول السوق الصيني، وبين التخلي عن حقوق الملكية الفكرية، وبالتالي يجب معاقبة الصين على ذلك تجارياً وحرمان بضائعها من السوق الأميركي الضخم وعليها أن تدفع ثمناً مكلفاً.
لكن الهدف النهائي من الحرب التجارية، هو عرقلة التقدم الاقتصادي والمالي الصيني الذي نما على أكتاف" سرقة التقنية الأميركية"، بحسب تصريحات ترامب، وكذلك التضييق على الصين كدولة غير رأسمالية تقوم باستغلال النظام الرأسمالي في تحقيق أهدافها عبر منظمة التجارة العالمية.
في مقابل الضغوط الأميركية، تسعى بكين إلى بناء نظام مصرفي ومالي مواز شبيه بالبنك الدولي وصندوق النقد والتوسع تدريجياً في تدويل اليوان كعملة احتياط عالمية.
يذكر أن الصين أسست بورصة لبيع صفقات الذهب باليوان منذ بداية العام الماضي 2017، كما أنشأت كذلك بورصة لبيع عقود النفط المستقبلية باليوان القابل للتحويل إلى ذهب، وهذه الخطوات ترى فيها واشنطن أنها محاولة لتضييق الخناق على الدولار الذي يهيمن حالياً على 80% من تسوية التجارة العالمية ويأخذ حصة فوق 61% من احتياطي البنوك المركزية العالمية.
ويقول خبراء مصارف في هذا الصدد: "إن منافسة اليوان للدولار قد لا تكون ممكنة في المستوى القريب أو حتى المتوسط". ولكن من ناحية التمدد التجاري والاقتصادي العالمي، فإن الصين تواصل التقدم على أميركا، بخاصة بعد استراتيجية" الحزام والطريق" التي رصدت لها قرابة تريليون دولار وتمر بأكثر من 36 دولة في آسيا وأوروبا وأفريقيا.
وتعمل الصين على تفادي حدوث حرب تجارية، لأنها ستكون مكلفة لاقتصاد بلادها الذي يعيش فترة من تباطؤ النمو وبحاجة ماسة إلى التصدير للسوق الأميركي الضخم الذي يقدر حجمه بنحو 11 تريليون دولار.
وحثت الصين الولايات المتحدة أمس الخميس، على أن تثوب إلى رشدها، بعد أن سعت إدارة ترامب إلى تكثيف الضغوط من أجل الحصول على تنازلات تجارية عبر اقتراح الرسوم المرتفعة، وجاء ذلك في تصريحات أدلى بها المتحدث باسم الخارجية الصينية قنغ شوانغ خلال إفادة صحافية يومية في بكين.
من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الصراع التجاري الجاري حالياً بين واشنطن وبكين، الذي رفعت بموجبه الإدارة الأميركية نسبة الضرائب الإضافية على السلع الصينية من 10 إلى 25%.
وبحسب رويترز، قال الممثل التجاري الأميركي روبرت لايتهايزر، مساء الأربعاء، إن الرئيس الأميركي أصدر له تعليمات برفع الضرائب الإضافية المفروضة على السلع الصينية، في إطار التعامل بالمثل.
وأوضح لايتهايزر، أنه سينفذ التعليمات المذكورة التي تشمل منتجات وسلعاً صينية تصل قيمتها الإجمالية إلى 200 مليار دولار. وأضاف أن ترامب أصدر له تعليمات سابقة بفرض ضرائب إضافية بنسبة 10% على السلع الصينية، رداً على قرار مماثل اتخذته الصين في 18 يونيو/حزيران الماضي على البضائع الأميركية.
ويطالب البيت الأبيض بخفض العجز التجاري بما يقارب 200 مليار دولار مع العملاق الآسيوي، والذي بلغ العام الماضي نحو 375 مليار دولار لمصلحة الصين.