يدخل مصري إلى إحدى عربات مترو الأنفاق، يحمل في يده عصا يتوكأ عليها، يخبر الركاب بأنه عامل في مجال المعمار، أصيب بعاهة أثناء عمله، ولم يعد قادراً على الكسب، قبل أن يطلب المساعدة.
هذا الرجل وغيره الملايين من المصريين، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي)، أصبحوا مطالبين بتحمل تبعات ومطالب اشترطها صندوق النقد الدولي على مصر للحصول على الشريحة الأولى بقيمة 2.5 مليار دولار من إجمالي القرض البالغ 12 مليار دولار، والذي يعتبره خبراء الفرصة الأخيرة للنظام لإنقاذ اقتصاد البلاد المنهار.
وتوصلت مصر إلى اتفاق مبدئي على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي للحصول على هذا القرض.
واشترط الصندوق للموافقة على القرض تنفيذ عدة إجراءات اقتصادية عاجلة، من بينها جعل أسعار الصرف مقابل العملات الأجنبية أكثر مرونة، ورفع الدعم عن الطاقة، وزيادة الإيرادات.
واستجابة لمطالب الصندوق، قرر البنك المركزي المصري تعويم العملة المحلية (الجنيه).
وتنتاب المصريين مشاعر خوف من "مصير مجهول" وموجة غلاء تسارعت وتيرتها خلال الأشهر الماضية، منذ الخفض الكبير للعملة المحلية بنحو 14% في منتصف مارس/ آذار الماضي، ورفع أسعار الكهرباء وتطبيق ضريبة القيمة المضافة.
وبعد قرار التعويم، والذي طال انتظاره وتوقعته بنوك استثمار عديدة خلال الفترة الماضية، قررت الحكومة المصرية رفع أسعار المحروقات بنسب ما بين 30% إلى 46.8% في مساء اليوم ذاته.
ويتفاقم الشعور بالقلق بعد قرار تعويم الجنيه المصري، خاصة في صفوف محدودي الدخل، وسط توقعات بارتفاع أسعار السلع.
ومن شدة هول اليوم وصفه الكثيرون بـ"الخميس الأسود"، حيث انتشر الوصف على نطاق واسع ليعبّر عن حال المصريين الذين يشتكون منذ فترة من موجة غلاء قصمت ظهورهم، إلا أن الحكومة، وعبر قرارات اقتصادية جديدة وصفها خبراء بـ"المؤلمة"، تجاوزت ظروف وحال الكثيرين في البلد، والذي تخطت نسبة الفقر فيه 27%، حسب إحصاءات رسمية.
وشهدت مصر ارتفاع معدل التضخم السنوي في أسعار المستهلكين إلى 16.4% خلال أغسطس/آب الماضي، وهو الأعلى منذ ثمانية أعوام.
وتعتبر الحكومة المصرية موافقة الصندوق على القرض بمثابة شهادة ثقة للاقتصاد وتصنيفه الائتماني.
ورأى الأكاديمي المصري، محمد رضا، أن قرض صندوق النقد الدولي الفرصة الأخيرة للنظام وهو "السبيل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد بعد وصوله إلى حالة هي الأسوأ في تاريخه، ولكن الأسوأ هو تأثيراته السلبية على المواطنين، خاصة محدودي الدخل".
ونبه رضا إلى أن الاقتصاد المصري "يعاني من آلام حادة في كافة مفاصله أدت إلى شلل وإعاقة في كافة قطاعاته.. وزادت من تدهور الأداء الاقتصادي طريقة إدارة الحكومات المتعاقبة".
واعتبر أن الحكومات المتعاقبة في مصر تعاملت مع الأزمات الاقتصادية عبر "فرض الضرائب والاستدانة مع سياسات نقدية خاطئة في إدارة الاحتياطي النقدي وأسعار الفائدة وتحديد سعر الصرف حتى وصلنا إلى مرحلة هي الأسوأ على الإطلاق".
وأضاف: "مع التدهور المتوالي للأوضاع ونزيف الاحتياطي النقدي وتفاقم الدين العام وتوقف المساعدات الخليجية وتراجع النظرة المستقبلية لمؤسسات التصنيف العالمية، أصبح السبيل الوحيد هو اللجوء إلى مؤسسات التمويل الدولية لمواجهة الواقع الاقتصادي".
وأشار إلى أن هذه الإجراءات ستنعكس سلبا على المواطن بـ"دفع ضرائب أكثر، وغلاء أسعار أكثر، وخدمات بسعر أكبر في ظل انعدام رقابة الحكومة على الأسواق وانعدام السيطرة على جشع التجار، وفي ظل الانخفاض الكبير لقيمة الجنيه سيكون الأمر مؤلما جدا على الطبقات الأكثر فقرا".
من جهته، قال أستاذ التمويل مدحت نافع إن القرض فرصة سانحة لاستعادة الثقة والسير وفق برنامج تلتقي إحداثياته مع برنامج إصلاحي محلي الصنع، لافتا إلى أن "الأثر المباشر لارتفاع أسعار مواد الطاقة عادة ما يكون تضخميا بالنسبة لمختلف الأسعار، نظرا لارتفاع تكاليف النقل، بالإضافة إلى تداعيات تحرير سعر الصرف".
وأضاف أن "الحكومة تراهن على أن ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع بالبنوك إلى 15% سيتعامل مع الأثرين التضخميين دفعة واحدة، وهي مجازفة قابلة للرصد واتخاذ القرار المناسب إن لم يقبلها السوق".
وأوضح أن تحقيق هذا الرهان يستدعي تحركا عاجلا فيما يتعلق بشبكة الضمان الاجتماعي لاحتواء الأثر السلبي على الطبقات الأشد احتياجا.
ورجح أستاذ الاقتصاد شريف الدمرداش أن تتسبب القرارات الاقتصادية الأخيرة في "موجة تضخم تتضرر منها الطبقة المتوسطة".
واعتبر الدمرداش أن توقيت رفع أسعار الوقود "خاطئ"، متسائلا عن سبب تنفيذ هذا القرار قبل الحصول على قرض صندوق النقد.
وحث الخبير الاقتصادي الحكومة على التدخل لحماية المواطن بتحديد تعريفة للمواصلات التي ستكون معضلة خلال الأيام القادمة بعد رفع أسعار الوقود.
ورفعت مصر، أمس الجمعة، أسعار الوقود. وصعد سعر البنزين 80 أوكتان إلى 2.35 جنيه للتر، بزيادة 46.8%، وسعر البنزين 92 أوكتان إلى 3.5 جنيهات بزيادة 34.6%. وارتفع سعر السولار إلى 2.35 جنيه، بزيادة 30.5%، بينما قفز سعر غاز السيارات 45.5% إلى 1.6 جنيه للمتر المكعب من 1.1 جنيه.
وقال وزير البترول المصري، طارق الملا، في المؤتمر، إن الوفر المتوقع من رفع أسعار الوقود يصل إلى 22 مليار جنيه. وكانت مصر قد رفعت أسعار الوقود بنسبة وصلت إلى 78% في 2014 بهدف تخفيض عجز الموازنة العامة للبلاد.
وتنتشر دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقطاعات من المصريين خلال الفترة الأخيرة، تطالب بالتظاهر يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تحت عنوان "ثورة الغلابة" ضد الغلاء، غير أنه لم تتبن أي جهة معارضة بارزة هذه الدعوة حتى الساعة.
(الأناضول، العربي الجديد)