قد تكون الأشهر الثلاثة المقبلة حاسمة لتحديد مدى قدرة العالم على السيطرة على الفيروس "كوفيد 19"، وبالتالي مسار الاقتصاد العالمي برمته، خاصة تحديد الجزء المتعلق بمستقبل النظام المالي والأسواق الناشئة التي تئنّ حالياً تحت وطأة التراجع الكبير لعملاتها مقابل الدولار، وهروب رأس المال إلى مراكز المال الغربية.
ومنذ بداية العام، وعقب تفشي فيروس كورونا، تعيش الأسواق الناشئة أزمة تتعلق بأسواق الصرف الأجنبي، وقد تستفحل خلال الشهور المقبلة، مع استمرار الضربات القاسية التي يوجهها الفيروس إلى صادرات السلع الأولية التي تعتمد عليها الاقتصادات الناشئة في الحصول على النقد الأجنبي الذي تحتاجه لمواجهة فاتورة الواردات وتسديد التزامات الديون.
وينصح خبراء دوليون في شؤون المصارف والمال، بضرورة تحرك سريع من قبل البنوك المركزية في مجموعة السبع الصناعية وصندوق النقد الدولي لتلافي حدوث أزمة مالية في هذه الدول، تفاعل من أزمة الاقتصاد العالمي الحالية، وربما فجّرت أزمة نقد عالمية.
في هذا الشأن، يقول الخبير المصرفي، ماركوس أشويرث، إن أزمة العملات بالاقتصادات الناشئة في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، التي يضاعف منها الارتفاع الكبير للدولار، تحتاج إلى تدخل عاجل من قبل البنوك المركزية الكبرى، شبيه بما قامت به المصارف المركزية لقمّة السبع في التسعينيات من القرن الماضي، حينما تدخلت لحماية الاقتصادات الآسيوية من ارتفاع الين مقابل الدولار.
وحسب أشويرث، فإن على البنوك المركزية أن تنفذ عمليات عاجلة لبيع جزء من احتياطاتها الدولارية مقابل العملات الناشئة حتى تمنع حدوث اختلال في نظام النقد العالمي.
ويرى أشويرث، في تحليله، أن تمويلات صندوق النقد الدولي البالغة تريليون دولار غير كافية لإنقاذ 80 دولة ناشئة تعاني من أزمات سعر الصرف في الوقت الراهن.
من جانبه، يلخص الخبير المالي في مركز "ويلسون سنتر" للدراسات العالمية بواشنطن، بنيامين غادين، أزمة العملات الناشئة في هذا الوقت، بقوله: "إنه لأمر سيّئ أن تكون دولة ناشئة في وقت الأزمات".
وأضاف في مثل هذه الظروف القاسية التي تعيشها الاقتصادات العالمية، فإن الدولة الناشئة "تكون في حاجة ماسة إلى رأس المال، لكن الأموال تهرب إلى المراكز المالية العالمية الآمنة، كما أن حجم صادرات السلع وأسعارها، التي تعتمد عليها في الحصول على العملات الصعبة تتراجع، وبالتالي ينهار سعر صرف العملة المحلية ويرتفع سعر صرف الدولار".
وحتى الآن قدم مصرف الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" بشكل محدود لمساعدة الأسواق الناشئة في حل أزمة النقص في الدولارات، حيث قدم تسهيلات دولارية محدودة لبعض الاقتصادات الناشئة، مثل المكسيك، في إطار "الصفقات التبادلية بين الدولار والعملات المحلية".
وتهدف هذه الصفقات إلى تزويد بنوك مركزية أجنبية بالسيولة بالدولار من خلال عقود المبادلة المدعومة بسندات الخزانة الأميركية، وهذه العقود مخصصة للمساعدة في تخفيف الضغط في الأسواق العالمية للتمويل بالدولار مع دعم الأداء لسوق سندات الخزانة الأميركية.
لكن محللين ينظرون إليها على أساس أنها عمليات محدودة جداً وغير كافية ولم تشمل إلا دولاً قليلة. وتركزت عمليات الاحتياط الفدرالي بشكل رئيسي على الاقتصادات الكبرى التي تعتمد عليها أميركا في التجارة، مثل كندا وبريطانيا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي.
وتشير بيانات بلومبيرغ المالية إلى أن الدولار، منذ بداية العام الجاري، سجل ارتفاعاً مقابل معظم العملات الناشئة، حيث ارتفع بأكثر من 10% مقابل الليرة التركية والروبية الإندونيسية والروبل الروسي، كما ارتفع بأكثر من 20% مقابل كل من البيزو المكسيكي والراند الجنوب أفريقي والريال البرازيلي.
وعلى صعيد هروب رأس الأموال عقب تفشي فيروس كورونا، تشير بيانات معهد التمويل الدولي في واشنطن إلى أن نحو 83 مليار دولار هربت من الأسواق الناشئة خلال شهر مارس/ آذار وحده. وهذا يعني أن حجم الدولارات التي هربت من هذه الاقتصادات الناشئة قد يصل إلى مئات مليارات الدولارات بنهاية العام الجاري.
ومن المتوقع أن يتواصل هذا الهروب خلال الشهور المقبلة، ما لم تتدخل المصارف المركزية الكبرى لمعالجة أزمة العملات الناشئة.
ويقدَّر حجم سندات الدين التي أصدرتها الاقتصادات الناشئة حتى نهاية العام الماضي بنحو 2.3 تريليون دولار.
ويلاحظ أن العديد من الدول الناشئة اقترضت كذلك من الصين، التي تواجه بسبب مضاعفات أزمة "كوفيد 19" مصاعب ديون في نظامها المصرفي، وتتخوف من حدوث تراجع كبير في سعر صرف اليوان مقابل الدولار.
وسبق أن واجهت تدهور سعر صرف اليوان في السنوات الماضية، وكانت نتيجتها هروب الدولارات والأثرياء إلى الخارج.
ويرى الخبير المصرفي أشويرث، أن الصين قد لا تخاطر في مثل هذه الظروف غير المستقرة بمنح قروض للدول الناشئة.
ولهذا السبب قد تسعى المصارف المركزية الكبرى للتعامل بجدية أكبر مع انهيار العملات الناشئة، بدلاً من ترك الملف فقط لصندوق النقد الدولي ذي الموارد المالية المحدودة.
وحسب خبراء في الشؤون النقدية، إن أزمة سعر الصرف في الأسواق الناشئة تحدث عادة من التوسع في الاقتراض بالدولار بواسطة الشركات الخاصة والحكومية، وعدم وجود احتياطات كافية بالعملات الصعبة في البنوك المركزية بالدول الناشئة، وبالتالي يؤدي النقص في الاحتياطات من النقد الأجنبي إلى عدم القدرة على تلبية الالتزامات المالية الخاصة بفاتورة الواردات وخدمة الديون المصدرة بالعملات الصعبة.
ويلاحظ أن هذه المشكلة تعاني منها حالياً معظم الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
ولدى دول الخليج صناديق ثروة يقدَّر حجمها بأكثر من ترليون دولار، وبالتالي يمكنها استخدام جزء من هذه الأرصدة في حماية عملاتها في المستقبل القريب. وتعاني دول الخليج منذ فترة من انهيار أسعار النفط.
وبشأن احتمال عودة المستثمرين إلى الاكتتاب في سندات الدين في الاقتصادات الناشئة، يرى مصرف "بانك أوف أميركا" في تحليل حديث، أن ذلك مرهون بتراجع صرف الدولار وتراجع تفشي الفيروس "كوفيد 19".
لكن رغم هذه الظروف القاسية التي تعاني منها الاقتصادات الناشئة، تمكنت بعض الدول من تسوق بعض السندات الدولارية.
وتحقق المصارف التجارية الغربية أرباحاً طائلة من عمليات تسويق سندات الاقتصادات الناشئة والفارق بين أسعار الفائدة الصفرية لدى بنوكها المركزية وبنوك الاقتصادات الناشئة.