لا تصدقوا ساويرس

07 مايو 2018
ساويرس في حواره مع تلفزيون بلومبيرغ (يوتيوب)
+ الخط -


نصيحة، لا تأخذوا كلام الملياردير نجيب ساويرس الأخير على محمل الجد، وأقصد بالكلام هنا ما نقله تلفزيون بلومبيرغ الاقتصادي الأميركي الشهير قبل أيام على لسان ساويرس من أنه استثمر نصف ثروته في الذهب، فالتجارب تقول إن ساويرس وأمثاله يطلقون مثل هذه التصريحات المثيرة عندما يريدون الخروج من استثمار محدد وليس دخوله وضخ أموال به، وإن هؤلاء يعلنون عن مثل هذه الأمور والقرارات الجوهرية المتعلقة بشركاتهم واستثماراتهم وملياراتهم عندما يحقق الإعلان مصالحهم ويجنون من وراء تصريحاتهم تلك عوائد إضافية، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك.

في البورصة المصرية مثلا عندما يريد كبار رجال الأعمال، أو ما يطلق عليهم (الهوامير) في الخليج تحقيق أرباح ضخمة على حساب جثث صغار المستثمرين، كان هؤلاء يسارعون بشراء مزيد من الأسهم المطروحة في البورصة ويعطون تعليمات لشركات السمسرة وبنوك الاستثمار بشراء كميات ضخمة من الأسهم لصالحهم خاصة في الشركات التي يستحوذون على حصة رئيسية بها.

والنتيجة حدوث ارتفاعات قياسية في الأسعار بالبورصة بسبب زيادة الطلب، خاصة أن هؤلاء يضخون عشرات الملايين في عمليات الشراء لأن لديهم السيولة الكبيرة، وهو ما يعطي أنطباعاً للعامة من الجمهور بأن استثمارات عربية وأجنبية طازجة وجديدة تم ضخها في سوق الأوراق المالية.

هنا يتصور صغار المستثمرين أن البورصة "طالعة"، وأن موجة صعود ستشهدها الأوراق المالية المطروحة خلال الفترة المقبلة، ودليلهم أن كبار رجال الأعمال يشترون أسهما بكميات ضخمة.

بعدها يسارع الصغار بشراء الأسهم المطروحة للبيع فى موجة تسمى "سياسة القطيع"، وأحيانا كان هؤلاء الصغار يبيعون كل ما لديهم من ذهب وفضة لشراء أسهم، بل ويقومون بتسييل الأموال المودعة في البنوك أو بيع الأراضي والوحدات السكنية لأن الأرباح المتوقعة أكبر من عوائد البنوك والعقارات من وجهة نظرهم.

في هذه اللحظة يستغل كبار المستثمرين ورجال الأعمال موجة الصعود فيبيعون ما في حوزتهم من أسهم ويحققون عوائد وأرباحا ضخمة خلال فترة زمنية قصيرة.


بعدها يتصور صغار المستثمرين أن الأسعار ستتهاوى، وأن البورصة ستنهار لأن الكبار باعوا، وحسب رؤية هؤلاء الصغار فإن الكبار أتخذوا قرار البيع بناء على ما لديهم من معلومات مؤكدة ومن مصادرهم داخل الجهات الرسمية، خاصة أن وزراء بالسلطة كانوا يعملون بشركات رجال الأعمال قبل التحاقهم بالعمل العام.

ومن هنا يندفع الصغار لبيع الأسهم التي بحوزتهم ليدفعوا الأسعار للتراجع الحاد، هنا يعاود الكبار عملية شراء الأسهم وهي رخيصة ليدفعوا الأسعار لأعلى مرة أخرى وليكرروا سيناريو كل مرة.

شخصيا أعرف عددا من كبار رجال الأعمال الذين كانوا ينشرون الشائعات حول شركاتهم حتى ترتفع أسعار أسهمها المدرجة في البورصة، وبعدها يبيعون جزءا من الأسهم التي بحوزتهم واستخدام حصيلتها لسداد مديونيات البنوك.

وكان من بين هذه الشائعات التي يحرص رجال الأعمال على نشرها إجراء مفاوضات مع البنوك تمهيدا لتسوية نزاع حول مديونيات متعثرة، أو قرب عودة رجل أعمال هارب وحذف أسمه من قوائم ترقب الوصول، أو حصول الشركة على قرض ضخم من البنوك لإجراء توسعات مستقبلية وإضافة خطوط إنتاج، أو تلقي الشركة المدرجة في البورصة عروض شراء من مستثمرين أجانب للاستحواذ عليها.

وللأسف كان الصغار هم أكثر المتضررين من هذه الشائعات لأنهم يكتشفون زيفها، لكن بعد فوات الأوان وبعدما تكون "الفأس وقعت في الرأس" واشتروا أسهم هذه الشركات بأسعار عالية، وإذا ما أرادوا التخلص منها فسيتم بيعها بأسعار منخفضة، وبالتالي يتعرضون لخسائر، أو لينتظروا حتى أقرب موجة ارتفاع يحركها كبار رجال الأعمال.

أخشى ما أخشاه أن تندرج تصريحات ساويرس الأخيرة تحت بند الممارسات التي يقوم بها بعض رجال الأعمال، ليس في البورصة المصرية بل في بورصات عربية أيضا، وتستهدف تحقيق أرباح ضخمة على جثث صغار المستثمرين، خاصة أن ساويرس خرج يوم السبت 5 مايو ليعلن أن تصريحاته لتلفزيون بلومبيرغ كان المقصود منها أنه استثمر نصف ثروته في شركات متخصصة في التنقيب عن الذهب، وليس في شراء مباشر للذهب، واللافت هنا أن ساويرس علق على حواره للتلفزيون الأميركي بعد إذاعة الحوار بخمسة ايام، فلماذا صمت الأيام الخمسة إذا ما كانت التصريحات المنسوبة له غير دقيقة.



لو صدقت رواية بلومبيرغ يكون ساويرس قد اشترى ذهبا بنحو 2.85 مليار دولار تمثل نصف ثروته، وهو مبلغ ضخم لا بد أن يتسبب في حدوث قفزات ملحوظة في سعر الذهب في حال ضخه، وهو ما لم نلحظه في أسواق المعادن العالمي خلال الفترة الماضية.

نعم، حدثت زيادة مؤخرا في سعر الذهب صاحبتها زيادة الإقبال على شراء الذهب في العالم، لكن حدث أيضا انخفاض وتذبذب في الأسعار، وهناك مبررات واقعية لهذه الزيادة أبرزها تنامي المخاطر الجيوسياسية، خاصة المتعلقة بزيادة حدة التوتر في منطقة الشرق الأوسط، وتهديد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني يوم السبت القادم 12 مايو، والتوتر الأميركي الكوري، والتوتير الخليجي الإيراني.

وهناك أسباب أخرى موضوعية لزيادة سعر الذهب منها إقبال البنوك المركزية العالمية على شراء الذهب للتحوط من المخاطر الاقتصادية والسياسية المتزايدة في العالم، وتخوف المستثمرين الدوليين من اندلاع حرب تجارية بسبب القرارات التي اتخذها ترامب ضد شركائه التجاريين وفي المقدمة الصين والاتحاد الأوروبي، والتخوف كذلك من اندلاع حرب عملات بين أميركا والصين، ومخاوف توسع الغرب في فرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا، لكن كل هذه العوامل لا تبرر لنا كلام بلومبيرغ عن استثمار ساويرس نصف ثروته في الذهب

حتى الآن لم تخرج علينا مؤسسة عالمية محايدة أو بنك استثمار له سمعة عالمية لينصح بالاستثمار في الذهب على المدى القصير والمتوسط، وبالتالي يجب أن نتعامل مع تصريحات ساويرس بالحذر، وأخشى ما أخشاه أن يؤدي هذا التصريح نحو اندفاع ملايين المستثمرين حول العالم لشراء الذهب، وبالتالي زيادة سعره، وهنا يجدها ساويرس فرصة ذهبية لبيع ما اقتناه ولكن بسعر أعلى.

سكت نجيب ساويرس 5 أيام كاملة عقب إذاعة حواره مع تلفزيون بلومبيرغ وكشفه عن استثمار نصف ثروته في الذهب، وبعد هذه الأيام خرج علينا ليقول: "لم أقصد ذلك حرفيا، وإنما قصدت أنني استثمرت نصف ثروتي في شركات التنقيب عن الذهب".

والمطلوب أن نصدقه.

المساهمون