بغض النظر عن موقفك من النظام السياسي في تركيا، وما إذا كنت تحب رجب طيب أردوغان أو تكرهه، تعتبره ديكتاتورا أو ديمقراطيا، فإننا أمام تجربة اقتصادية يجب التوقف عندها مليّاً خاصة مع النجاحات التي تحققها يوماً بعد يوم، وآخرها ما تم الكشف عنه قبل أيام ويتعلق بالأرقام التي حققتها البلاد في عام 2017، سواء على مستوى معدلات النمو أو الصادرات أو الاستثمارات المباشرة وجذب رؤوس الأموال أو السياحة وغيرها.
من دولة منهارة اقتصاديا قبل عام 2002 إلى دولة تخطو حالياً وبسرعة نحو المركز الـ 15 بين أقوى 20 اقتصاداً حول العالم، ومن دولة كان يرتع فيها الفساد وتتجذر فيها البيروقراطية إلى دولة تسجل أعلى معدلات نمو في العالم، وتحلّ في المرتبة الأولى في معدلات النمو بين اقتصادات مجموعة العشرين التي تشكل 85% من الاقتصاد العالمي، بل تتفوّق على كل دول الاتحاد الأوروبي، وعلى ثاني اقتصاد في العالم وهو الاقتصاد الصيني.
ومن دولة تسيطر فيها المؤسسة العسكرية قبل نحو 15 عاما على دفة الاقتصاد والمشاريع الكبرى والصفقات الضخمة إلى بلد باتت محط أنظار المستثمرين الدوليين، دولة يدير فيها القطاع الخاص عجلة الاقتصاد ويصبح المصدر الأول لفرض العمل والتشغيل خاصة للشباب.
دولة لا شيء يقف أمامها سوى الوصول لأن تكون ضمن أقوى 5 اقتصاديات حول العالم، لا شيء يوقف صادراتها التي تجاوزت 157 مليار دولار في العام الماضي، ولا شيء يقف أمام شركاتها ومنتجاتها لكسب أرض جديدة في الأسواق العالمية.
من تجربتها نتعلم أن اليأس لا يعرفه سوى الضعفاء والانهزاميين، وأن اقتصاد دولة يمكن أن يتحول، وبشكل جذري خلال سنوات معدودة، يتحول من اقتصاد منهار مأزوم مهترئ إلى واحد من أقوى اقتصادات العالم، وأنك ما دمت تملك رؤية محددة وخطة واضحة وشعباً يدعم قراراتك الاقتصادية إذاً تستطيع تحقيق المعجزات، تجربة تقول إن الارهاب، وإن حدث، لن يعطل تنمية وتأسيس مشروعات ولن يوقف تدفق استثمارات أجنبية.
تركيا.. دولة تترصد لها المؤسسات المالية العالمية وتخفّض تصنيفها الائتماني يوما بعد يوم، فإذا باقتصادها يسجل نسبة نمو وصلت إلى 7.4% في العام الماضي 2017، لتخالف التوقعات المتشائمة للكثير من هذه المؤسسات التي راحت ترسم صورة سوداوية للاقتصاد التركي خاصة عقب الانقلاب العسكري الفاشل أو خلال فترة الاستفتاء على الدستور أو عقب وقوع أي عملية ارهابية.
دولة أرادوا لاقتصادها الانكماش والدخول في رحلة كساد طويلة ومتاهة لا أول لها ولا آخر، فإذا باقتصادها يحقق نمواً يزيد على ثلاثة أضعاف متوسط معدل نمو الاتحاد الأوروبي التي تناصب بعض دولها أنقرة العداء، وفي مقدمتهم ألمانيا القوة الاقتصادية الجبارة.
دولة أرادوا إغراقها في الفوضى المالية واضطرابات أسواق الصرف، فإذا باقتصادها يكون الأكثر سرعة في النمو ويتخطى اقتصاديات كبرى مثل الصين والهند، بل ويتصدر نمو بلدان مجموعة العشرين، ويأتي في المرتبة الثانية مقارنة ببلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والاتحاد الأوروبي.
دولة أرادوا طرد الاستثمارات الأجنبية منها وتصويرها للمستثمرين على أنها دولة عالية المخاطر لا مستقبل لها، فإذا بحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم تنجح في جذب رؤوس أموال أجنبية تتجاوز قيمتها 191 مليار دولار منذ توليها السلطة في البلاد، كما تتوقع لها البنوك الكبرى أن تظل من بين الأسواق الناشئة الأسرع نمواً خلال العام الجاري 2018.
خلال السنوات الأخيرة أراد لها أعداؤها التاريخيون أن تكون دولة ضعيفة منهكة اقتصاديا مشرذمة سياسيا، فإذا بها تحول التحديات والأزمات إلى مكاسب اقتصادية وتدخل نادي مجموعة العشرين رغم أنها دولة غير نفطية ولا تصدر معادن، بل تصدر سلعا وخدمات.
دولة حاولوا إغراقها في الإرهاب الأسود بالتفجيرات تارة والانقلابات تارة أخرى، فإذا بها تشهد مشروعات عملاقة حقيقية وتفتح ثالث جسر معلق فوق مضيق البوسفور، وتطلق مشروع فتح قناة ضخمة في إسطنبول تكون معبرا مهما للتجارة العالمية وتحول جزءا كبيرا من المدينة إلى جزيرة.
منذ انقلابها العسكري الفاشل الذي وقع في 15 يوليو 2016 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اقتصادها، مرحلة الانطلاق نحو نادي العشرة الكبار اقتصاديا وليس التراجع كما كان مخطط لها.
دولة تحارب الإرهاب في داخل حدودها وخارجها، ومع ذلك فإن يد التنمية تبني لتخرج لنا أكبر مطار في العالم سيتم افتتاحه يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول المقبل بتكلفة استثمارية 10.6 مليارات دولار، وليصبح ثالث مطار في إسطنبول.
دولة فصلت بين السياسة والمصالح الاقتصادية، طبقت مبدأ البراغماتية في قراراتها الاقتصادية وتحالفاتها الإقليمية، تحالفت مع ألد الأعداء مثل روسيا وإيران إذا كان ذلك في صالح اقتصادها وشعبها، فحولت الأعداء إلى أصدقاء اقتصاديين، أما الخلافات السياسية فمكانها سورية والعراق وساحات الحروب وفوهة المدافع.
بعض دول المنطقة أغلقت الأبواب والحدود أمام صادراتها، بسبب زيادة المخاطر السياسية والأمنية أو بسبب مواقف أردوغان وتصريحاته، فإذا بها تفتح أسواقا جديدة في دول عربية وأفريقية وآسيوية وأوروبية أخرى.
دولة أراد الأعداء إغراقها في الديون الخارجية والخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولى والبنك الدولي، فإذا بها تمنح قروضا لصندوق النقد وتصبح عضوا فاعلا في قراراته وسياساته.
دولة لا يتوقف المناوئون لها عن إثارة فزاعة أسعار الصرف لترويع المدخرين والمستثمرين، فإذا بها تجهض محاولات المضاربة على عملتها الليرة بالنمو القوي الذي تحققه وباحتياطي من النقد الأجنبي تجاوز 120 مليار دولار.
تركيا ليست الدولة الفاضلة بلا شك، وليست النموذج الديمقراطي المثالي، لكن حكومتها عرفت كيف تحول الطبقات الفقيرة بها إلى طبقات متوسطة، والشباب إلى طاقة إنتاج، وأن تحول الأزمات إلى مكاسب، والخسائر إلى أرباح، وأن تحول الحرب على الإرهاب من عامل طرد للاستثمارات إلى عامل جذب لها، وأن يقنع الحزب الحاكم بها المواطنين بالتصويت له، ليس حبّاً في سياسته وبرامجه الانتخابية، لكن لأسباب براغماتية واقتصادية بحتة.
تركيا تحلم بقيادة مجموعة العشرين التي تضم اقتصاديات دول كبرى منها أميركا والصين واليابان وألمانيا وروسيا والهند، لكن هذا الطريق طويل وشاق وملئ بالعقبات.