حظرت السلطات السعودية استيراد البصل من مصر وأصدرت وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية بيانًا في 17 يناير/كانون الثاني الماضي قالت فيه إن الحظر جاء وفقًا لما تقتضيه المصلحة العامة بعد تحليل عينات البصل الواردة من مصر وثبوت تجاوز متبقيات المبيدات في البصل المصري بنسبة أعلى من الحد المسموح به عالميًا.
ولم تكتف حكومة المملكة بحظر شحنات الشركة المخالفة فقط، بل حظرت كل واردات البصل من مصر، كما لم تخطر السلطات السعودية نظيراتها المصرية بقرار الحظر.
بررت السلطات السعودية سبب حظرها استيراد البصل المصري باحتوائه على متبقيات مبيدات بنسبة أعلى من الحد المسموح به عالميًا، وهو مبرر غير علمي، لا سيما أن أوراق البصل تحتوي على طبقة شمعية تمنع استقرار المبيدات على سطحها وتقلل امتصاصها داخل الأوراق.
كما أن البصل من المحاصيل قليلة الاحتياج للمعاملة بالمبيدات تحت ظروف البيئة المصرية، وبافتراض وجود متبقيات المبيدات، فإن طول فترة تخزين البصل، والتي تمتد من الحصاد حتى التصدير وتصل إلى أكثر من ستة شهور، كافٍ لتحللها وانعدامها.
الإساءة لسمعة المنتجات الزراعية
حظر السعودية استيراد البصل من مصر يسيء إلى سمعة المنتجات الزراعية المصرية التي تضررت بسبب تكرار الحظر خلال السنوات الثلاث الماضية، ويعيد التذكير بقرارات سعودية بحظر المنتجات المصرية بعد حظرها من الولايات المتحدة وروسيا في 2016 ليس لأسباب صحية كما أعلن، ولكن بسبب رفض مصر استيراد قمح ملوث بفطر الأرجوت المسرطن.
ورفعت الدولتان الحظر في نفس الموسم الزراعي، ولكن بعد إذعان مصر وإجبارها على استيراد القمح الملوث عادت السعودية وعلّقت الحظر. وبالتالي، فإن الحظر السعودي للحاصلات الزراعية المصرية يخلق أزمة جديدة بسبب توقيت صدوره الذي يتزامن مع ذروة الموسم التصديري الذي يستمر من أول سبتمبر/أيلول حتى نهاية أغسطس/آب، وتكون ذروة الموسم بين نوفمبر/تشرين الثاني ومنتصف إبريل/نيسان.
السعودية انفردت وحدها بحظر البصل من مصر ودون أن تحظره دولة واحدة من الدول التي تستورد البصل المصري والتي يصل عددها إلى 25 دولة ومنها روسيا وبريطانيا وفرنسا واليابان وبلجيكا وأميركا، وجميعها تتشدد في مواصفات المنتجات الغذائية التي تدخل بلادها أكثر من السعودية، ما يثير علامات الاستفهام حول القرار السعودي غير المبرر، ويجعلنا نبحث عن سبب آخر قد يكون منطقيا للحظر.
القرار لمصلحة الهند
قبل القرار السعودي بحظر البصل المصري بأسبوعين فقط، نشرت "رويترز" تقريرا يقول إن الهند تعاني من انهيار حاد في أسعار البصل بسبب انخفاض طلبات التصدير إلى منطقة الخليج. وقالت إن المزارعين الهنود قاموا باحتجاجات وأغلقوا الطرق السريعة وألقوا البصل على الطريق، بعد أن انخفضت الأسعار إلى أقل من روبية واحدة للكيلوغرام الذي يكلف 8 روبيات.
ورصدت رويترز استياء المزارعين بسبب انخفاض أسعار البصل، ما يضر بشعبية حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء نارندرا مودي في الولايات الريفية في الانتخابات المزمع إجراؤها في شهر مايو/أيار المقبل.
وكان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد زار الهند قبل أيام، كما التقى في الأرجنتين على هامش قمة العشرين رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي. واتفقا خلال اللقاء على الاستثمار في عدة مجالات، وفي المجال الزراعي كان جوهر الاستثمار عبارة عن إحلال الواردات الهندية الزراعية محل الواردات الزراعية من دول أخرى إلى المملكة.
واعتبر محللون أن "مودي" يشارك في كسر العزلة الدولية التي أحاطت بن سلمان بعد جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقابل الاستثمارات السعودية. وبالتالي يمكن القول إن "مودي" يجني ثمار لقاء بن سلمان، ولكن على حساب مزارع البصل المصري الذي لا يجد سلطة تدافع عن حقه ولا حكومة تحمي منتجه.
أضرار بالغة للفلاح المصري
استقرار السوق وثبات الطلب من موسم إلى آخر هو شرط لنجاح العلاقات التجارية بين الدول، وبالتالي فإن حظر البصل المصري معناه تقلب السوق السعودي بالنسبة للمصدرين المصريين وتذبذب الطلب، وهو ما يضر مباشرة بالفلاح المصري البسيط والمتضرر الأكبر من القرار السعودي لأنه يزرع البصل كل عام من أجل السوق السعودي، أكبر مستورد للبصل المصري بمعدل 200 ألف طن وما يمثل قرابة 50% من اجمالي صادرات مصر من البصل، ما يعني أن استمرار حظر البصل المصري سوف يدفع المزارعين إلى تقليل المساحة المنزرعة إلى النصف، وما يترتب عليها من فقدان فرص العمل ومصادر الرزق لملايين من المزارعين والعمالة الزراعية اليومية.
البصل هو ثالث أهم المحاصيل الإقتصادية والتصديرية فى مصر، بعد الموالح والبطاطس، وعقب منع زراعة الأرز وتوقف التصدير، وتدهور محصول القطن، فإن البصل هو المحصول التصديري الأهم والوحيد بالنسبة للفلاح البسيط والذي يستطيع تصديره بدون تصريح من الحكومة، بعكس المحاصيل التصديرية الأخرى، من البطاطس والفراولة والعنب، والتي يحتكر تصديرها الحيتان والمستثمرون المقربون من الحكومة ولا تصدر إلا بتصريح من وزير الزراعة فقط.
السلطات السعودية خيرت المصدرين المصريين بدفع 1800 دولار تكلفة لإعدام حاوية البصل الواحدة في السعودية، أو يتم ارجاع البصل إلى بلد المنشأ وهو مصر، ما يكلف قرابة 6 آلاف دولار حتى تعود إلى مصر. فخسر المصدرون 100 ألف جنيه في كل حاوية تحتوي على 29 طن. وقف التصدير حرم مئات العاملين في محطات التصدير من مصدر الرزق لهم ولأولادهم.
وفي المقابل وعلى استحياء، اكتفت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي المصرية بتفنيد رفض السلطات السعودية لشحنات البصل المصري بإصدار بيان قالت فيه إن التحاليل المعملية أثبتت أن عينات البصل المصري المصدرة لكل دول العالم خلال 2018 سليمة بنسبة 99.1%، بينما لم تتخط نسبة العينات المتجاوزة للحدود القصوى المسموح بها دوليا لمتبقيات المبيدات 0.9% وتم استبعادها، ولم ترد السعودية على البيان.
مطلوب اعتذار رسمي
اكتفاء الحكومة المصرية بإصدار بيان فقط، دون مطالبة السعودية بتقديم اعتذار رسمي للحكومة المصرية عن الإساءة لسمعة المنتج الوطني، وتقديم أسباب مقنعة للخطأ الذي وقع وبتعويض مناسب للمصدرين المصريين الذين تكبدوا خسائر بسبب تكدس عشرات الشاحنات المحملة بالبصل في الموانئ المصرية والتي كانت متجهة إلى ميناء جدة السعودي، وبسبب إعادة الشحن مرة أخرى إلى مصر، هو تواطؤ مع النظام السعودي الذي يدعم الجنرال السيسي وكان سبب رئيس للانقلاب على أول تجربة ديمقراطية في مصر، على حساب المصدرين والمزارعين المصريين.
ومن مفارقات الأزمة، أنه في الوقت الذي تدعي الحكومة المصرية أن السعودية الحليف الأكبر لمصر، وأن تركيا هي الشيطان الأكبر وداعمة الإرهاب في مصر، وافقت الحكومة التركية على طلب مصر استيراد البصل المصري بعد أسبوع واحد من قرار الحظر السعودي، وبكميات غير محددة وهي فرصة لتعويض السوق السعودي.
تركيا تنقذ الموقف
ورغم التوتر السياسي بين البلدين مصر وتركيا، إلا أن أنقرة لم تقطع العلاقات التجارية مع مصر، ولم توقف اتفاقية التجارة الحرة المشتركة، ولم تحظر المنتجات الزراعية المصرية كما تفعل السعودية، ولم تفضل البصل الهندي على المصري كما فعلت السعودية!
مصر لها مكانة عالمية راسخة فى إنتاج البصل بفضل البيئة الزراعية والمناخ المعتدل، وتحتل المرتبة الثالثة في ترتبيب الدول المنتجة بعد الصين والهند.
وعلى مستوى الصناعة، تحتل مصر المرتبة الثالثة في تصدير البصل المجفف، والمرتبة الأولى من حيث الجودة والسعر الأعلى بمعدل 2000 دولار للطن، ما يمثل قيمة مضافة لقطاع الصناعات الغذائية المصرية.
دعم صناعة تجفيف البصل يمثل فرصة بديلة لتعويض خسائر السوق السعودي الذي أغلق في وجه الاقتصاد المصري؛ لا سيما أن زراعة البصل تنتشر في جميع محافظات الجمهورية، ويزرع ثلاث مرات أو عروات على مدار العام هي العروة الشتوية، والنيلية، والصيفية، وهو من المحاصيل كثيفة استخدام العمالة الزراعية وهو فرصة لتشغيل أعداد كبيرة من العمالة الزراعية الموسمية وعمال "اليومية" البسطاء، إذ يحتاج الفدان الواحد إلى تشغيل أكثر من 30 عاملا موزعين خلال موسم الزراعة والخدمة والحصاد، وعدد مماثل في مفارش التخزين ومحطات الفرز والتعبئة والتصدير.