أزمة المديونية العالمية

20 ديسمبر 2018
تصاعد الاحتجاجات مع تطور الأزمات الاقتصادية (Getty)
+ الخط -
من الكتب التي اكتسبت مكانة كبيرة عام 2018 "الأزمة  الكبيرة للمديونية" (The Big Debt Crisis)، تأليف واحد من التايكونات (الأثرياء جداً) في الولايات المتحدة، اسمه ريموند داليو، ويتحدث عن أمور كثيرة، أهمها كيف تحدث الدورات الاقتصادية، وأشكالها، وأساليب الخروج منها. 

ولعل واحدةً من المفارقات الطريفة ربطه بين سلوك الأشخاص الطبيعيين والمعنويين من ناحية وسلوك الحكومات  من ناحية أخرى.

ويقول إن كليهما يتصرّف تحت ظروفٍ معينةٍ بطريقةٍ تؤدي إلى تفاقم المديونية، والمبالغة فيها. وينبه إلى حقيقةٍ أساسية، هي أن في أيام الدّعة والانفراج، يقبل الناس والحكومات والشركات على الإنفاق ببحبوحة. وما يدفعهم لذلك هو سهولة الحصول على المال، فيغامرون استهلاكاً أو استثماراً، خصوصا إذا وجدوا فرصاً سهلة للاستثمار، ولبّوا نزعتهم للمغالاة في بسط اليد والاستهلاك.

وبعد فترة، ترتفع الأسعار والكلف، وترتفع معها كلف الديون التي أخذوها ويأخذونها، وإذا استمرت الأسعار في الارتفاع، وخصوصا إذا ما بدأت السلطات النقدية برفع أسعار الفائدة، على أساس أن إدارة التضخم أسهل من إدارة الركود.

وهنا يقع الأفراد والشركات والحكومات في أزمةٍ، حيث ترتفع عليهم كلف سداد الديون، وتقل أمامهم فرص التحصيل وزيادة مواردهم، وتتراجع عوائدهم، ما يجعل المديونية طوقاً ضيّقاً ملفوفاً حول رقابهم. وإذا أصبحت كلف الإقراض أعلى من المردود، وقع الاقتصاد في أزمة ركود.

وتأتي هذه الاستنتاجات والقراءات التي يقدمها راي داليو من واقع تجربة الأزمة المالية للعام 2008، وما تمخضت عنه من آثار كبيرة على الاقتصاد العالمي برمته. وينذر داليو، كما فعل اقتصاديون ومستثمرون آخرون، من حصول انتكاسة جديدة في الاقتصاد العالمي، قد تؤدي إلى حربٍ طاحنةٍ دولية، لا يعلم إلا الله مدى نتائجها.

وقد بنى داليو استنتاجاته على بعض الظواهر العالمية، فزيادة التنافس بين القوى الاقتصادية الأعظم، وخصوصا الولايات المتحدة والصين، هي البوابة للمواجهة، ومن ثَمّ الحروب، ويعزّز هذا الأمر كثرة الدول التي تعاني من الأزمات الاقتصادية والمالية، وارتفاع نسب المديونية عليها. وهو يشير في القارة الأميركية إلى البرازيل، والأرجنتين، والمكسيك، وفنزويلا وغيرها من دول أصغر.

ويذكّرنا بالأزمات في الشرق الأوسط، وأفريقيا وأوروبا. ويقول إن الأمثلة على تردي الأوضاع الاقتصادية كثيرة، وتشكل توجهاً خطيراً نحو أزمات سياسية.

ويعزز مقالته كذلك ببروز ظاهرة العنف اليميني المتطرّف في دول كثيرة في أوروبا، وهو لا يعزو ذلك إلى زيادة أعداد المهاجرين فحسب، بل إلى شعور كثير من فئات المجتمع في دول كثيرة، سواء الديمقراطية منها أم الدكتاتورية، المنفتح منها أو السلطوي، بالإهمال والتهميش بسبب سوء توزيع الدخل والثروة، وبسبب عجز الحكومات عن حل مشكلات الناس. ولذلك برزت الحركات اليمينية المتطرّفة، وحققت أحزابها انتصاراتٍ سياسية في الانتخابات.

وتشير كذلك إحصاءات الجرائم السياسية إلى أن مخاطر الأحداث الإرهابية الناجمة عمّا يسمى الإرهاب المدفوع بالدين، أو بِكُرْه الأجانب، إلى نمو مستمر. وأصبح كذلك العداء ضد المسلمين من أحزاب اليمين أكثر تكراراً وأخطر من الإرهاب الداعشي، وأشكاله القريبة منه.

ولذلك، ينذر الكاتب بحدوث كارثة عالمية، خصوصا إذا حل التنافس والتناحر مكان التعاون في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي بدأت رؤوسها البشعة تظهر فوق السطح.

ولذلك، فإن الكاتب، وهو يرأس واحداً من أكبر "صناديق التحوط" أو (Hedge Funds) في العالم بتقديم حلول مالية من أجل إدارة الأزمات المالية على مستوى الأفراد والأسر والشركات والحكومات. ويضع قواعد لهذه السلوكيات، تقوم على ترشيد الإنفاق أيام اليسر، لأن ذلك أسهل من التدبير أيام العسر.

ويقول إن التضخم المنفلت (hyperinflation) أصعب إدارةً، ويتطلب وقتاً أطول من إدارة التراجع (deinflation). ويحذر الدول من إغراء طباعة النقود، لتسيير الدورة الاقتصادية، لأن هذه هي الآفة التي تصطنعها بعض الدول، للخروج من العجز في موازناتها، ولتمويل مشروعات غير مجدية فيها.

وبالطبع، هنالك اقتصاديون آخرون يتفهمون صورة العالم كما تعكسها تخصّصاتهم ونشاطاتهم التي يمارسونها. ومع هذا، صار التنبؤ بقرب حصول انهيار اقتصادي عالمي أكثر قرباً واحتمالية مما كان يُعتقد قبل عامين مثلاً. ويحرص الخبراء الماليون والاقتصاديون على ألا تتعرّض سمعتهم للامتحان العسير ثانية، بعدما فشلوا فشلاً ذريعاً باستثناء أقلية قليلة منهم في التنبؤ بأزمة عام 2008، وبأسبابها ونتائجها.

ويثور السؤال الكبير: هل تعلّم العالم من الدروس القاسية للأزمات المالية المتتابعة من أزمة المديونية في ثمانينات القرن الماضي، والأزمة الآسيوية في التسعينات، وأزمة عام 2008؟
أم أن العالم لم يدرك أن الحلول التي قُدّمت للخروج من أزمة 2008 كانت قد عولجت بالسموم نفسها التي ساهمت في إيجاد الأزمة اصلاً؟ وأن المؤسسات المالية والعقارية والتأمينية الكبرى التي أحدثت المشتقات المالية والبالونات الاستثمارية هي التي انتفعت من مشروع الإنقاذ المالي إبّان فترة الرئيس باراك أوباما؟

ولا بد ثانية من أن تدرك الدول العربية أنها في مواجهة أزمة خطيرة مالية، واقتصادية، وسياسية. وأن أنظمة عربية متنافسة كثيرة بحاجة ماسّة أكثر من أي وقت مضى، لكي تضع السيوف جانباً، وتستبدل بها المحاريث والتعاون؟

لم نتعلم، نحن كذلك، من أزمات الربيع العربي. وأي محاولات للتقليل من احتمالات التظاهر والعنف المجتمعي والاحتجاج السياسي في الأيام المقبلة، داخل بعض الدول العربية هي محاولة عمياء، ستزيد من العنف عنفاً، ومن النار تأجيجاً.
المساهمون