لجأ العديد من الحكومات العربية المتعثرة في الآونة الأخيرة إلى صندوق النقد الدولي بشكل ملحوظ، في الوقت الذي يختلف الخبراء الاقتصاديون بشأن طبيعة التجارب السابقة لتلك الدول مع الصندوق، مثل مصر والأردن وتونس والمغرب واليمن، ويتوقعون اتجاه مزيد من الدول العربية، كلبنان مثلاً، لطلب الدعم المالي من نفس الجهة.
ولطالما امتازت برامج الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد بوصفة تكاد تكون واحدة يقدمها لكل الدول مهما اختلفت طبيعة اقتصادتها، وأبرز سياساتها: خفض الدعم المقدم من الحكومة للسلع والخدمات، ورفع الضرائب والرسوم، والعمل على خصخصة بعض شركات القطاع العام، وتعويم العملة المحلية، والاتجاه نحو الاستدانة من الخارج وتجنب الاستدانة من الداخل.
وتهدف تلك السياسات، التي تُطرح من قبل الصندوق، إلى خفض عجز الموازنة وتسريع عجلة النمو بشكل أساسي، إلا أنها تأتي على حساب الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، لما لها من تداعيات سلبية على المدى القصير، كارتفاع التضخم ونسب البطالة.
ويقوم الصندوق بمنح الأموال إلى الدولة المقترضة على عدة دفعات بتكلفة منخفضة، على أن يقوم وفد من الصندوق بمراجعة الإصلاحات الاقتصادية المتفق عليها بين الطرفين أول بأول، قبل تحصيل كل قسط من تلك الدفعات.
وتمتاز الدول العربية، التي خاضت تلك التجربة مع صندوق النقد، بارتفاع عجز الموازنة وتراجع حجم الاحتياطي الأجنبي واتساع عجز ميزان المدفوعات، بالإضافة إلى عدم القدرة على سداد ما عليها من مستحقات.
وحصلت مصر واليمن من صندوق النقد على قرض بقيمة 12 مليار دولار و552.9 مليون دولار على الترتيب، بينما يتلقى الأردن وتونس في الوقت الحالي قروضا بقيمة 1.3 مليار دولار و2.9 مليار دولار على الترتيب.
ووقع المغرب على أربعة اتفاقات مع صندوق النقد منذ عام 2012، حيث وقع في 2012 على قرض بقيمة 6.2 مليارات دولار، وفي 2014 وقع على قرض بلغ 5 مليارات دولار، وفي 2016 وقع على قرض بقيمة 3.5 مليارات دولار، وأخيرا في 2018 وقع على قرض بقيمة 2.97 مليار دولار.
ويرى المحلل الاقتصادي في المعهد اللبناني لدراسات السوق، مجدي عارف، أن بعض تلك التجارب في الدول العربية كان جيدا والبعض الآخر كان سيئا، معتبرًا أن قيام الصندوق بخفض نفقات الدولة من خلال إلغاء أو تقليل نسب الدعم الحكومي للسلع والخدمات يعد شيئا إيجابيا، لكن في الوقت نفسه العمل على رفع نسب الضرائب وفرض ضريبة على القيمة المضافة، في دول تشهد حالة من تدني دخل مواطنيها وتراجع الاستثمارات الأجنبية، يؤدي إلى آثار سلبية كارتفاع نسب البطالة وعزوف المستثمرين وتقليل نسب النمو.
وأكد عارف، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن من الأمور الواجب توافرها في سياسة خفض نفقات تلك الدول هو فتح الأسواق للمنافسة من دون احتكار، مشيرا إلى أنه في حال قيام الدولة بخفض نفقاتها من دون التخلص من الاحتكار، تصبح الدولة عاملة على احتكار بعض القطاعات وخفض التكلفة عليها، مما يؤدي إلى تباطؤ نشاط تلك القطاعات.
ويوضح عارف، أن هناك بعض الدول رفضت الاستدانة من الصندوق نتيجة تلك السياسات، وفضلت الاستدانة من الصين ودول آسيا، وهناك التي استدانت من بعض الدول الأخرى بشكل نسبي قبل التفاوض مع الصندوق، حتى تتمتع بمساحة جيدة من التفاوض كونها ليست بحاجة ملحة للصندوق، مؤكدا على أن معظم الدول التي تلجأ للصندوق تكون ليس لديها خيار آخر.
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي، جاسم عجاقة، إن تجارب العالم العربي مع صندوق النقد محدودة، مضيفا أن الوضع الاقتصادي للدول العربية يدفعها إلى الاستدانة، ما عدا الدول المنتجة للنفط التي استطاعت أن تحافظ على قدرتها المالية إلى حد ما.
ويوضح عجاقة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بأن دور الصندوق هو إقراض الدول بتكلفة منخفضة في مقابل سداد استحقاقاتها الحالية، وتصحيح وضعها المالي والاقتصادي، لتتمكن لاحقا من سداد ديونها بمفردها.
كما يعتبر أن تجربة مصر مع الصندوق تعد ناجحة، مؤكدا أن مصر شهدت في بداية تطبيق برنامج الإصلاح الإقتصادي بعض الآثار السلبية، مثل انخفاض قيمة العملة.
ويشير إلى أن من المعروف بكل الدول العربية التي تعاملت مع الصندوق، ارتفاع نسب الفقر والبطالة وتدني الأمور الاجتماعية بالمرحلة الأولى، مضيفا أن من يدفع التكلفة هو المواطن الفقير لكن على المدى البعيد يُفترض أن تتحسن الأمور.
ويضيف عجاقة أن المواطن في تلك الدول العربية مضطر إلى دفع فاتورة فشل السياسات الحكومية، نتيجة أنه هو من انتخب تلك السلطة التي تمارس الفساد وسرقة الأموال، مؤكدا أن الحكومات العربية هي من دفعت نفسها إلى هذه الحالة نتيجة عدم الحوكمة الرشيدة.
بدوره، يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة أوكلاند، مصطفى شاهين، أن الصندوق يعمل على فرض سياسة تقشفية في السياسة المالية والنقدية، مما يؤدي إلى انكماش الاقتصاد ومروره بحالتين متزامنتين هما الركود والتضخم.
ويؤكد شاهين، أن صندوق النقد يعمل على رفع الضرائب وخفض النفقات، إلا أن المديونية تزداد نتيجة الاقتراض، مشيرا إلى أن الدور الأساسي للصندوق هو علاج الاختلالات الطارئة في ميزان مدفوعات الدولة التي تعاني من أوضاع صعبة، وبالتالي يقرضهم الصندوق حتى يستطيعوا الإستيراد، ما يؤدي إلى فتح الأسواق العالمية واستمرار حركة التجارة الدولية من دون أي تقييد أو انكماش.
ويوضح شاهين أن سياسات الصندوق تكون واحدة بنفس الصيغة ونفس الإطار من أجل تحقيق ما يعرف ببرنامج الإصلاح والتثبيت الهيكلي، إلا أن هذا الأمر لا يؤتي الثمرة بالشكل المطلوب، فمكونات هذا البرنامج، سواء السياسة المالية أو النقدية التقييدية، تعمل على لجم الطلب الكلي والحد من الإنفاق.