فجّر المقاول والفنان المصري محمد علي بركان احتجاجات عريضة في مصر، باتهامه الجنرال عبد الفتاح السيسي وزوجته بإهدار مليارات الجنيهات من المال العام في بناء قصور رئاسية بالتواطؤ مع الإدارة الهندسية التابعة للقوات المسلحة.
وأصبح من نافلة القول إن الجنرال السيسي عقد المؤتمر الثامن للشباب خصيصًا للرد على اتهامات المقاول. واختار جنرال المخابرات السابق الحديث عن أزمة سد النهضة، باعتباره خطراً وجودياً يواجه مصر، وإثارة المخاوف حول فشل مفاوضاته، كتكتيك لحشد الجماهير الغاضبة خلف قيادته في الأزمة ولتشتيت انتباه المصريين وإلهائهم بعيدًا عن بركان محمد علي.
جرت عادة الجنرال السيسي، عند حديثه عن أزمة سد النهضة طوال الخمس سنوات الماضية، أن ينكر وجود الأزمة من الأساس تارة، وأن يطمئن المصريين بقدرته على حلها والسيطرة عليها تارة أخرى. وتناقض موقفه المتراخي في مفاوضات السد مع حديثه المعسول عن الأزمة.
ولأول مرة عند حديثه عن الأزمة يقلب الجنرال عادته ويغير موقفه، ويعتبر بناء السد منتهى الخطورة. وهو وإن كان في حديثه الأخير عن مخاطر السد قد قلب كلامه السابق ومواقفه القديمة، فقد نطق بالحقيقة التي يعرفها كل مصري.
لكن الغريب هذه المرة هو استدعاء السد وإقحامه في الرد على اتهامات محمد علي له ولزوجته بالفساد، وهو ما قالت بعض وكالات الإعلام الأجنبية إنه تم بتوجيه من جهة سيادية.
فشل خطة الإلهاء
لم يكتف السيسي بإقحام أزمة سد النهضة في التشويش على اتهامات الفساد، ولكنه ارتكب مغالطة أخرى واتهم ثورة يناير باعتبارها الغلطة المسؤولة عن شروع إثيوبيا في بناء السد، والتي لولاها ما بُنيت سدود على نهر النيل، وحذر المصريين، وهذا هو المهم بالنسبة له، من تكرار الثورة التي اعتبرها أخطر من بناء السد.
الانخراط في الدفاع عن ثورة 2011 ضد اتهام السيسي، بالتذكير بأن مخطط بناء سد النهضة وغيره من السدود قد بدأ الكشف عنه في ستينيات القرن الماضي، وبأن إثيوبيا أعلنت عن بناء السد في 2010، وأن المخلوع حسني مبارك طلب من الخرطوم إنشاء قاعدة عسكرية لاستخدامها إذا أصرت إثيوبيا على بناء سد، وفق وثيقة نشرها موقع ويكيلكس ويعود تاريخها إلى 26 مايو/ أيار 2010، واستهلاك الوقت في تأكيد براءة الثورة من سد النهضة، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، هو انسياق وراء تكتيك الإلهاء والتخويف الذي ينشده الجنرال السيسي.
وبعد فشل خطة الإلهاء، وخروج المصريين بأعداد كبيرة للتظاهر في القاهرة والمحافظات بعد يومين من انتهاء مؤتمر الشباب والإعلان عن الخروج للتظاهر مرة أخرى، استدعى الجنرال السيسي سد النهضة ومخاطره أمام اجتماع الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ووظف الإعلام الحكومي المجند لأجندته، والأذرع الإعلامية المحلية والإقليمية الرافعة له الحدث، ودعا إلى تكاتف المصريين جميعا من أجل قضية سد النهضة وحلها بدلا من مشاهدة الفيديوهات البذيئة التي تحرض ضد مصر، وفق ما أوردته صحيفة الأهرام الحكومية، في إشارة إلى فيديوهات المقاول الفنان.
بداية الأزمة
بعد اعلان اثيوبيا عن تدشين مشروع السد، عقب ثورة يناير بأقل من شهرين، اتفقت مصر والسودان واثيوبيا، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، على تشكيل "اللجنة الدولية لتقييم الدراسات الأثيوبية لسد النهضة" وتتكون من 10 خبراء، اثنان من كل دولة من الدول الثلاث، وأربعة خبراء أجانب محايدين ومتخصصين في مجالات هندسة السدود والموارد المائية، وتأثيرات السدود على الحياة الإقتصادية والاجتماعية والبيئية.
وبدأت اللجنة عملها في مايو 2012، وأنجزت تقريرها النهائي في 31 مايو 2013. وكشفت اللجنة في تقريرها عن وجود سلبيات خطيرة في التصميمات الإنشائية.
وقالت اللجنة أن التصميمات الإنشائية التى قدمتها إثيوبيا عن السد هي تصميمات أولية وسطحية، ولا تختص بالمشروع نفسه ولا موقعه الحالي، ولا ترقى لمستوى الدراسات المطلوبة لسد بهذا الحجم الضخم، وأن بعض هذه الدراسات قد وضعت بعد البدء في بناء السد وأثناء عمل اللجنة.
وأثبت التقرير أن حكومة إثيوبيا تخفي كثير من المعلومات الحيوية عن السد وتتعامل معها بسرية تامة، وأوصى الخبراء بضرورة وضع تصميمات جديدة للسد، وبإتاحة كل المعلومات المتعلقة ببناء السد، وإجراء دراسات إنشائية وبيئية واقتصادية جادة وحديثة. وقد أقرت أثيوبيا بما ورد في التقرير، ووقعا الخبيران الأثيوبيان عليه كاملًا.
عرقلة الرئيس مرسي
بعد أسبوع واحد من صدوره، شرع الرئيس مرسي في استخدام مخرجات تقرير اللجنة الدولية والذي اعترفت أثيوبيا بكل ما ورد فيه من مخاطر، في مطالبة إثيوبيا بوقف بناء السد إلى حين التأكد من أنه لا يشكل خطرًا على أمن مصر المائي".
وباعتباره رئيس منتخب، تبنى مرسي سياسة حشد القوى الشعبية وتوحيد الصف الوطني في مواجهة أزمة سد النهضة. ودعى أحزاب المعارضة للاجتماع في مقر الرئاسة وأطلعهم بشفافية على ما ورد في تقرير اللجنة الدولية، وهو الإجتماع الذي اذاعه التلفزيون الرسمي على الهواء مباشرة دون علم المشاركين ودعا بعضهم الى أعمال استخباراتية ضد اثيوبيا، واعتبرته وسائل الاعلام فضيحة وكشف لأسرار الدولة.
ثم عقد الرئيس الراحل مرسي مؤتمر شعبي "المؤتمر الوطني للحفاظ على حقوق مصر في مياه نهر النيل"، لتطمين المصريين بقدرة الدولة المصرية على الحفاظ على مياه النيل.
وقال في كلمته أمام المؤتمر، الذي عُقد قبل انقلاب يوليو بثلاثة أسابيع، وعلى الهواء مباشرة، أخطر مما قيل في اجتماع أحزاب المعارض، وهو التهديد صراحة باستخدام القوة ضد اثيوبيا.
وشدد على أن: " أمن مصر المائي لا يمكن تجاوزه أو المساس به على الإطلاق، وإنني كرئيس للدولة أؤكد على أن جميع الخيارات أمامنا مفتوحة في التعامل مع هذا الملف، ولا نسمح أبدًا بأن يهدد أمننا مائيًا أو غير ذلك، وإن نقصت مياهه قطرة واحدة فان دماؤنا هي البديل".
كانت إثيوبيا في موقف قانوني ودولي ضعيف بعد خروج تقرير اللجنة الدولية للعلن واقرارها بما ورد فيه من إدانات، ولم تتهم مرسي بإعلان الحرب، ولم تلجأ إلى الإتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة للاعتراض على خطاب مرسي، واكتفت بإطلاق تطمينات لمصر بعدم الضرر، لعلمها أن القانون الدولي لا يعطيها الحق في بناء السد دون موافقة مصر.
لم تكن المرة الأولى التي يهدد فيها رئيس مصري باستخدام القوة للدفاع عن حقوق مصر المائية. ففي 1970 هدد الرئيس الراحل، أنور السادات، بشن حرب لمنع أي تدخل في تدفق المياه إلى نهر النيل.
وقال: "العبث بحقوق الأمة في المياه هو العبث بحياتها، وإن قرار خوض الحرب لهذه الأسباب أمر لا جدال فيه في المجتمع الدولي".
خيارات كثيرة
كان أمام مصر، في عهد الرئيس الراحل مرسي، خيارات كثيرة للحفاظ على حقوقها المائية قبل اللجوء للقوة، منها إجبار إثيوبيا على وقف بناء السد في مراحله الأولى لحين إتمام الدراسات الفنية، استنادًا إلى معاهدات 1902، و1959، التي تعطي مصر حق الفيتو والاعتراض على المشاريع التي تهدد أمنها المائي، واستنادا إلى الاتفاقية المعنية بمياه الأنهار الدولية التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة عام 1997.
ومن الخيارات رفع القضية إلى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومحكمة العدل الدولية، والإتحاد الإفريقي لاستصدار قرار يلزم إثيوبيا بوقف أعمال البناء في السد حتى لا تؤدي الأزمة إلى اشتعال الصراع بين الدول الثلاث وتهديد السلم والأمن الدوليين، وهو المطلب الذي أشار إليه السيسي على استحياء في الأمم المتحدة، ولكنه جاء متأخرًا عن موعده ست سنوات كاملة، وقد جرت في النهر مياه كثيرة، وقارب السد على الاكتمال ووقوع الكارثة.
وكان من الممكن التمسك بتخفيض حجم السد إلى حجمه الأول، والذي أعلنت عنه إثيوبيا وهو 14 مليار متر مكعب بدلًا من 75 مليار.
وكان من المتاح التفاوض على عدد سنوات الملء الأول لخزان السد بما لا يضر بمصر ضررًا ذي شأن، وذلك وفق اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، الأمم المتحدة 1997. المطالبة بالمشاركة في إدارة وتشغيل السد، كما أوصت بذلك اللجنة الدولية، لضمان تنسيق عمليات التشغيل بين سد النهضة والسد العالي.
تنازلات السيسي
في الخامس من يوليو/تموز 2013، وبسبب الانقلاب العسكري والإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، قطع الجنرال السيسي الطريق على مصر في استخدام الخيارات السابقة، وحرمها من امكانية وقف بناء السد في مراحله الأولى.
وعلق مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي عضوية مصر في الاتحاد الذي يضم 54 دولة، بسبب "انتزاع السلطة بشكل غير دستوري"، وهو الاجراء الذي استخدمته اثيوبيا لاحقًا في مساومة السيسي ليعترف بالسد في مقابل الاعتراف بشرعية دولية وعودة مصر لعضوية الإتحاد.
وفي يناير 2014، رفضت أثيوبيا وجود الخبراء الدوليين ضمن اللجنة، لما وجدته من خطورة بسبب أراءهم المؤيدة لحق مصر في وقف أعمال البناء في السد. وتوقفت "اللجنة الدولية لتقييم الدراسات الأثيوبية لسد النهضة" عن استكمال أعمالها.
وبدلًا من تمسك مصر بوجود الخبراء الدوليين ضمن اللجنة والاستفادة من موقفهم المحايد والذي يدين اثيوبيا أمام المؤسسات الدولية، تنازل الجنرال السيسي عن شرط وجود هؤلاء الخبراء، واتفق السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي على استئناف المفاوضات بدون خبراء أجانب في يونيو/حزيران 2014، ما أحال اللجنة إلى حلبة للصراع بين الدول الثلاث دون وجود الرأي الحيادي الفاصل في النزاعات.
وفي 23 إبريل/ نيسان 2014، نجحت مصر في استصدار قرار بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والبنك الدولي، يقضي بوقف التمويل الأجنبي لسد النهضة، وكذلك وقف القروض التي كانت ستحصل عليها إثيوبيا والمخصصة لإقامة سدود أخرى على النيل الأزرق من كل من الصين وإيطاليا وغيرها من الدول.
هذا يعني أن مصر نجحت في عرقلة التمويل الأجنبي اللازم لبناء السد، الأمر الذي يمكن أن يؤخر تشغيل السد لسنوات إضافية، سيما أن إثيوبيا بلد فقير لا يستطيع تدبير 4.8 مليارات دولار لبناء السد ذاتيا، ما يمثل 12% من الناتج المحلي للدولة، فضلًا عن أن المبلغ زاد بنسبة 50% بسبب تأخر عمليات التشغيل التي كان مزمعا الانتهاء منها في 2017.
ولكن، وبعد هذا الإنجاز الفارق في تاريخ الأزمة، فاجأ الجنرال السيسي الجميع، ووقع اتفاق المبادئ المثير للجدل في مارس/آذار 2015 مع إثيوبيا والسودان، والذي بمقتضاه تنازل السيسي عن حصة مصر القانونية والتاريخية في مياه النيل، والأخطر من ذلك أنه أعطى شرعية للسد كان محرومًا منها، وفي المقابل حرم مصر من اللجوء إلى الأمم المتحدة لوقف بناء السد إلا بموافقة إثيوبيا، وهي بالتأكيد لن تفعل.
ورغم خرق إثيوبيا بنود الاتفاق عدة مرات، واعتراف رئيس الوزراء، آبي أحمد، بارتكاب أخطاء في الدراسات وفساد في تنفيذ الإنشاءات، اكتفى السيسي بطلب القسم من أحمد بألا يسبب ضررا لمياه مصر في مؤتمر فوضوي ساذج.
ينص دستور 2014 على أن تلتزم الدولة بحماية نهر النيل، والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به، وقد انتقصت فقرة "ومنع الاعتداء عليه" من دستور 2012.
الفريق سامي عنان، وهو رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، اعتبر توقيع السيسي اتفاق المبادئ خطيئة، وكتب بيانا على صفحته في "فيسبوك" قال فيه: "إن الحكومة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة ملف سد النهضة، فشل يصل إلى حد الخطيئة، بدأ منذ أن وقّعت مصر على إعلان الخرطوم في مارس/ آذار عام 2015، مؤتمر حسن النوايا، ورفع الأيدي".
وطالب عنان بمحاسبة النظام، وقال في البيان: "يجب محاسبة كل مَن أوصلنا إلى هذا الوضع الكارثي المهين، ويجب إعلام الشعب بكافة الأمور والمستجدات بشفافية كاملة، وعلى الدولة أن تعلن أن كل الخيارات متاحة للدفاع عن الأمن القومي لمصر وحقوقها التاريخية في مياه النيل".
إنها نفس الخيارات التي تمسك بها الرئيس الراحل، محمد مرسي، رغم أن خلفيته مدنية، وهي نفسها التي فرط فيها السيسي، رغم أنه جنرال عسكري. انتقل الرئيس مرسي إلى جوار ربه، وعنان في السجن حتى الآن، ولكن مطالبهما بالدفاع عن مياه النيل ربما تتحقق إذا انتصر المصريون في معركة الفنان محمد علي، وعندها سيذكر التاريخ من الذي صان ومن الذي خان.