بعد شهور من إتمام المراجعة الرابعة لتطورات برنامج الإصلاح الاقتصادي، المعد بالتنسيق بين مصر وصندوق النقد الدولي، أفرج الصندوق عن تقريره، الذي أثار الكثير من الجدل لدى المهتمين بشأن الاقتصاد المصري.
وبعد أن أثنى الصندوق على إجراءات الحكومة المصرية "الحكيمة"، التي أسهمت في استقرار الاقتصاد الكلي، "على الرغم من ضعف البيئة الخارجية الواضح"، ونصح بالالتزام بخطوات البرنامج المتفق عليه، رصد العديد من التطورات التي اعتبرها إيجابية، إلا أنه قدم بعض التحذيرات من مجموعة من المخاطر التي يمكن أن تؤدي لتعثر برنامج الإصلاح، مثل ارتفاع أسعار النفط العالمية، أو ارتفاع معدلات الفائدة على الدولار، بعد زيادة الدين الخارجي المصري.
وركزت أغرب ردود أفعال المحللين على ما تعلق بتعهد الحكومة المصرية بتطبيق آلية تسعير للمواد البترولية، تربط سعر الوقود المباع للمواطن المصري بسعره العالمي، وصولاً إلى الإلغاء التام للدعم على كافة أنواع الوقود، باستثناء الغاز المسال، بحلول نهاية السنة المالية المنتهية في 30 يونيو/حزيران 2019، وكذلك تحرير أسعار الكهرباء بالكامل مع نهاية السنة المالية 2020 /2021، باعتبارهما يعنيان، بما لا يدع مجالاً للشك، رفع أسعار الوقود خلال الشهور الثلاثة القادمة، مع رفع أسعار الكهرباء تدريجياً خلال العامين القادمين.
لكن الحقيقة أن ما خفي من التقرير كان أكثر أهمية، من وجهة نظري، من النقاط التي ركزت عليها التحليلات، بعد أن تم إبلاغنا بتعهدات الحكومة تلك في تقارير سابقة، فعرفنا أن زيادات الأسعار قادمة لا محالة!
أما ما تم الإشارة إليه على استحياء في التقرير فقد اشتمل على موضوعين على قدر كبير من الأهمية، كونهما يشيران إلى تطورات سلبية في مؤشرين من أكثر المؤشرات الاقتصادية أهمية في العالم، وبصورة خاصة في الحالة الاقتصادية المصرية.
الدين العام
أما الموضوع الأول، فهو حجم الدين العام لدى الحكومة، والذي بلغ مستويات غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد المصري!
ورغم أهمية المؤشر، إلا أن 85 صفحة تَكَوَّنَ منها تقرير صندوق النقد، لم تتسع لذكر رصيد الدين العام المصري، واكتفى التقرير بتأكيد انخفاضه في أكثر من مناسبة!
ومع تكرار قراءتي للتقرير، وإعادة تقييم بعض ما ورد فيه، أدركت أن المقصود هو انخفاض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، لا الدين العام بصورة مطلقة، رغم عدم النص على ذلك بصورة واضحة، سهواً أو عمداً، في العديد من المواضع.
الدين العام المصري زاد بمعدلات كبيرة جداً في السنوات الخمس الأخيرة، وترتب على ذلك ارتفاع حصة مصروف وأعباء خدمة الدين، أي بند فوائد الديون الذي لا يشمل سداد أي أقساط، من إجمالي إيرادات الدولة إلى ما يقرب من 50 في المائة، تصل إلى نحو 80 بالمائة لو أضفنا إليها الأقساط واجبة السداد خلال العام، وهو ما يجور على المبالغ المخصصة للاستثمار في التعليم والصحة والصرف الصحي والبحث العلمي وشبكات الحماية الاجتماعية.
وهذا الأمر يبقي الشعب المصري أسيراً لدى نظام تعليمي فاشل، ومستشفيات بلا علاج، وحرمان من الصرف الصحي في مئات القرى، وجهل تام بمبتكرات العلم الحديث، ودخول ملايين المواطنين في مستويات معيشة غير آدمية، ولا تكون هناك نتيجة لذلك إلا اتساع عجز الموازنة، وارتفاع الدين العام، عاماً بعد عام.
تثبيت العملة المحلية
أما الموضوع الثاني، فهو سعر صرف الجنيه المصري، حيث أشار التقرير، في ملاحظة عابرة، إلى تحذير صندوق النقد للحكومة من "استمرار تثبيت سعر الجنيه مقابل الدولار"، رغم ارتفاع قيمة الدولار عالمياً، حيث أن ذلك قد يتسبب في "انخفاض تدفق رؤوس الأموال إلى البلاد وهروب المستثمرين الأجانب".
ومن الواضح أن الصندوق، بعد كل ما عاناه المصريون من انخفاض دخلهم الحقيقي، وضياع ثرواتهم، من جراء تعويم الجنيه الذي أدى لفقدانه أكثر من 50 بالمائة من قيمته أمام الدولار، ما زال يرى أن الجنيه مقوم بأكثر من قيمته الحقيقية في الوقت الحالي، وأن البنك المركزي يتدخل لمنع انخفاضه الرسمي.
ولا أستطيع أن ألوم صندوق النقد هنا، فبعد مضي ما يقرب من 30 شهراً على تعويم الجنيه، الذي كان أحد أهم شروط الصندوق قبل الموافقة على منح مصر القرض المتفق عليه، ما زال الجنيه يعاني من ضغوط تستلزم تدخل البنك المركزي لحمايته.
ومع الأسف، فإن ذلك يعد نتيجة طبيعية لاستمرار نزيف ميزان المدفوعات المصري، الذي يعاني خللاً كبيراً، لم تنجح كل إجراءات برنامج الإصلاح الاقتصادي، ونصائح الصندوق، وإجراءات الحكومة "الحكيمة"، على حد وصف الصندوق، في وضع حدٍ له، وهو ما يسبب ضغطا دائما على العملة المصرية، التي يستحيل من الناحية الواقعية أن تحافظ على قيمتها، بينما يعاني ميزان المدفوعات المصري عجزاً يتجاوز 15 مليار دولار كل عام.
اختلالات هيكلية
خلاصة ما قرأته بين سطور تقرير صندوق النقد تقول إن الاقتصاد المصري، بعد أكثر من عامين من بدء تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، ما زال يعاني اختلالاتٍ هيكلية، يعلم الجميع أنها كانت أسباباً رئيسية لتردي حالة الاقتصاد، واحتياجة لقرض الصندوق.
ورغم تردي قيمة الجنيه، وضياع موارد الدولة في سداد أقساط الديون وفوائدها، لم يتمكن برنامج الإصلاح الاقتصادي من علاج عجز الموازنة ولا عجز ميزان المدفوعات، وما زال الدين العام آخذاً في الارتفاع، وما زال الجنيه المصري يئن تحت وطأة الاستيراد وغياب الاستثمار الأجنبي المباشر وضعف إيرادات السياحة، وهو ما يعني أننا ما زلنا أسرى المتاهة التي دخلناها، وأن خطوات الحل الحقيقي لم تبدأ بعد.