يكثر حديث المحللين الاقتصاديين عن تعداد بنود الخسائر التي مُني بها الاقتصاد الصيني منذ انفجار أزمة فيروس كورونا، ولكن القلة القليلة منهم تجرؤ على إعطاء رقم إجمالي تقديري لتلك الخسائر، ولكنها ربما قاربت 70 مليار دولار، حسب تقديرات، أو أكثر، فهنالك كلف تجميد الحياة الاقتصادية وشلها في المدن الكبيرة، وهنالك بالطبع كلف التصدّي للوباء، من علاج، ولقاحات، وعناية حثيثة بالمرضى، وإجراءات الحجر والكمامات والتعقيم فوق هذا وذاك.
وفي مدينة ووهان (11 مليون نسمة)، حيث بدأ الوباء، وتقع وسط شمال الصين، وهي مدينة مهمة، ومنها ينطلق مئات الألوف، وتأتي إليها أعداد مشابهة. وحيث أن الفيروس يمر في فترة حضانة (incubation period) مدتها أسبوعان، فإن أعداداً بعشرات الألوف تكون قد التقطته قبل أن يُكتَشف.
وقد رأينا تراجعاً كبيراً في بداية انتشار الوباء في أسواق البورصة الصينية وأسعار الأسهم المتداولة، حيث انخفضت منذ بداية الأزمة وحتى أمس، الأربعاء، ولكن بعدما أصدرت الحكومة الصينية بياناً تؤكد فيه أن ارتفاع حالات الموت قد كان بتراجع أعداد المصابين.
وقد أدى هذا التصريح إلى ارتفاع أسعار الأسهم بالبورصة الصينية (بورصة شنغهاي SSE). ولكن عندما بدأت الوفيات والحالات في الارتفاع بعد ذلك عاودت أسعار الأسهم هبوطها، وخصوصا أسهم قطاعات الصناعة والبنوك والإنشاءات.
وهذا يعكس مدى الارتباط الوثيق بين أنباء (وإحصاءات) مرض فيروس كورونا وأسعار الأسهم في السوق. ولعل أكثر المتضررين هو قطاع السيارات الذي انخفضت مبيعاته منذ الأزمة بحوالي 80% داخل الصين.، كما أثرت الأزمة على سوق السيارات العالمي.
مسّت الأزمة الصين واقتصادها مسّاً مباشراً. ولكن أثرها لم ينحصر بالصين، بل امتد إلى دول أخرى وصل إليها هذا الفيروس، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإيران وإيطاليا، ويكفي أن تكون الإصابات قليلة كما حصل في العراق والكويت ولبنان وسلطنة عمان والبحرين، لكي تتخذ هذه الدول إجراءات فورية بإغلاق حدودها وحشد الاستعداد والمعدات والأمصال وتجهيز غرف العزل لمواجهة هذا الداء. ونتج عن ذلك حصول اضطراب في انسياب التجارة الدولية، وحركة الناس، وجمود الاستثمار وعمليات الإنشاء حتى ينجلي الموقف.
ونتيجة كل هذه الأحداث التي تذكّر بـ"أثر الدومينو"، فقد ارتفع سعر الدولار حيال اليوان الصيني ليساوي 7.03 يوان يوم 21 فبراير/ شباط الحالي، مقابل 6.84 قبل شهر تقريباً، أي بارتفاع نسبته 2.8%، وهو سعر مرشّح للارتفاع مع تطور الأزمة.
وفي المقابل، ارتفع سعر الملاذ الآمن أو الذهب من 1590 دولاراً للأونصة الواحدة إلى 1643.6 دولاراً للأونصة الواحدة يوم 20 من الشهر الحالي (فبراير/ شباط)، أو بارتفاع نسبته 10.3%. وهو مرشّح بالطبع لمزيد من الارتفاع، حتى إن بعضهم صار يتنبأ بأن يصل السعر إلى ألفي دولار.
وقد كُتبت مقالات وتحليلات عديدة تتهم الولايات المتحدة بأنها هي التي زرعت عبر السفارة الأميركية في الصين فيروس كورونا، المعد داخل المختبرات عن طريق تهجين الفيروسات حتى تربك الصين، وتحسن الولايات المتحدة من موقفها التفاوضي مع بكين في المفاوضات بشأن التبادل التجاري بين البلدين.
وظهرت في المقابل نظريات مؤامرة تحمّل الجانب الصيني المسؤولية بأنه هو الذي أثار رعب الناس في الصين من الفيروس، حتى يدفع المستثمرين الأجانب إلى تصفية حصصهم وأملاكهم في الصين بأسعار زهيدة. ولكن المؤشّرات لا تؤكد هذا الأمر، بل هناك محللون يعتقدون أن شركات أجنبية صارت تشتري أسهماً إضافية في شركات صينية، توقعاً للحصول على ربح وفير بعد انفراج موجة الفيروس.
ومن الصعب أن يصدق المرء أن دولة كالولايات المتحدة تعلم قدرات الصين للرد على الهجوم الجرثومي الأميركي بهجوم مقابل أن تزرع (الولايات المتحدة) مثل هذا الميكروب في الصين. وفي المقابل، من الصعب على المرء أن يصدق أن الصين تريد تهجير الاستثمارات الأجنبية فيها عن طريق ترهيبهم بفيروس كورونا.
ولكن المعقول تصديقه أن الولايات المتحدة لا تدّخر، منذ تسلم الرئيس دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة في بداية العام 2017، أي فرصة للهجوم على الصين، عن طريق تضخيم المشكلة إعلامياً.
وقد حدث هذا في هونغ كونغ، ما أدّى إلى مظاهرات استمرت لأشهر عدة، كانت لها كلفة عالية على الصين. وثانيا الهجوم الإعلامي على الصين، بسبب ما يقوله مسؤولون وأعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي عن تهجير الصين مسلمي "الإيغور" وغسل أدمغتهم وتدجينهم خشية الإرهاب.
وفي السياق نفسه، فإن أطباء كثيرين، وحتى منظمة الصحة العالمية، ما زالوا يعتقدون أن عدد الوفيات من فيروس كورونا أقل من العدد الناتج عن مرض "سارس"، وحتى أقل من الأنفلونزا العادية، وأن هذه الضجة الإعلامية مبالغٌ فيها لإرباك الصين، وضعضعة اقتصادها، وهذه رواية يمكن أن تكون لها صدقيتها.
إنه لا شك عالم قذر بحيل وتكتيكات قذرة. أتذكرون مشكلة "k2" التي تمخضت فولد الفيل فأراً، ولكنها ملأت جيوب شركات تكنولوجيا المعلومات بمليارات الدولارات. قد نكون أمام قضية دولية جديدة مشابهة.
تبذل الصين جهودا خارقة لاحتواء فيروس كورونا، ويجب أن نتعاطف معها في هذا الوقت بالذات. وحمانا الله، لأن المرض قد بات على أبواب الوطن العربي، كالجراد القادم من شرق أفريقيا.