سياسات الحكومة المصرية تدفع لتصفية صناعة الإسمنت

02 يوليو 2019
ارتفاع كلفة إنتاج الإسمنت (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
غياب التنسيق بين مكونات السياسة الاقتصادية في مصر، تظهر دلالاته في أكثر من موضع، كان آخرها ما تتعرض له صناعة الإسمنت، فتحت ضغوط صندوق النقد الدولي التزمت مصر بتحرير أسعار الطاقة، وفي عام 2014 اتجهت مصانع الإسمنت إلى استخدام الفحم كبديل للغاز الطبيعي أو المكونات النفطية الأخرى، لكن مؤخرًا ارتفعت أسعار الفحم في السوق الدولية بنحو 200%.

لكن أسعار الطاقة لم تكن وحدها مشكلة صناعة الإسمنت في مصر، حسب تقديرات شعبة الإسمنت التابعة لغرفة صناعة البناء باتحاد الصناعات المصرية، فهناك ارتفاع في تكلفة المواد الخام، وفي معدلات الضرائب، ما أدى إلى فقدان مصر قدراتها على التصدير في السوق الإقليمية والدولية، وكذلك اتجاه الحكومة، خلال السنوات الماضية، إلى منح تراخيص جديدة لمصانع إسمنت.

ومبعث مشكلة صناعة الإسمنت أن مصر تعاني حاليا من وجود فائض كبير في الإنتاج، حيث قدّر الإنتاج بنحو 85 مليون طن، بينما احتياجات السوق لا تزيد عن 52 مليون طن، ولا تزيد الصادرات عن مليون طن سنويًا، وهذا الأمر دفع بعض الشركات إلى وقف الإنتاج، وآخرها شركة "إسمنت طرة"، التي أعلنت أنها تعاني من خسائر تقدر بنحو 47 مليون دولار، وأنها تدرس تصفية نشاطها في مصر، حيث تمتلكها شركة ألمانية.

دلالات سوء الإدارة

من المعلوم أن صناعة الإسمنت من الصناعات الملوثة للبيئة، وكذلك من الصناعات كثيفة استخدام الطاقة، وكلا الأمرين يكرس لمشكلات تضاف إلى أجندة طويلة من معاناة مصر اقتصاديًا واجتماعيًا، وكان أولى بصانع السياسة الاقتصادية أن يدير هذه الصناعة في حدود احتياجات مصر المحلية فقط، لأن كل شيكارة إسمنت إضافية تدفع مصر مقابل لها من صحة مواطنيها، ومن أموالها لتدبير احتياجات الطاقة، خاصة أن البديل بعد ارتفاع أسعار الطاقة في مصر هو الاعتماد على الفحم المستورد، والذي يستنزف العملات الأجنبية.

ومنذ عام 1995 بدأت مسيرة خصخصة صناعة الإسمنت في مصر، حتى صارت الشركات الأجنبية تمتلك نحو 80% من استثمارات القطاع، ومؤخرًا أصبح للجيش مصنعان للإسمنت في سيناء وبني سويف. وما آلت إليه صناعة الإسمنت من تراجع، وشكوى الشعبة لوزارة التجارة والصناعة حول المشكلات التي تهدد نسبة كبيرة من المصانع بالتوقف عن الإنتاج، سوف يبعث برسالة سلبية عن مناخ الاستثمار في مصر، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من فجوة تمويلية وتعوّل بشكل كبير على جذب الاستثمارات الأجنبية.

وفي الوقت الذي تشير فيه النشرة المعلوماتية للجهاز المركزي للإحصاء عن شهر يونيو 2019 إلى أن معدلات الإنتاج في مصر من النفط والغاز تفوق معدلات الاستهلاك على مدار الفترة من سبتمبر 2018 وحتى إبريل 2019، إلا أن مصانع الإسمنت وغيرها من الصناعات المصرية، تعاني من تكلفة الطاقة، ففي صناعة الإسمنت تمثل الطاقة 65% من تكلفة الإنتاج.

والمفترض أن الحكومة حريصة على نظافة البيئة، فإتاحة الغاز الطبيعي لمثل صناعة الإسمنت، يقلل من نسب التلوث العالية، المعروفة به هذه الصناعة، بينما السياسات المصرية التي تفتقد إلى التنسيق ومراعاة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، جعلت جلّ مصانع الإسمنت تعتمد على الفحم كمصدر للطاقة، مما يعني مزيدا من التلوث، بحجة خفض التكاليف، بينما يدفع المجتمع مقابلا غالي الثمن وهو ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية الناتجة عن ارتفاع معدلات التلوث، خاصة أمراض الصدر، والقضاء على الزراعة، وتلوث مصادر المياه.

وفي إطار الأزمة التمويلية الحادة التي تمر بها مصر، وسعي الحكومة إلى الوفاء بالتزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي، نالت صناعة الإسمنت آثار سلبية في ضوء السياسات الضريبية، الخاصة برفع الضرائب على المحاجر وتطبيق الضريبة العقارية. لتكون مشكلة الضرائب بجوار مشكلة ارتفاع تكاليف الطاقة، من دون مراعاة متطلبات القطاعات الإنتاجية، فهاجس زيادة الإيرادات وتقليل العجز بالموازنة، غيب وعي صانع السياسة الاقتصادية، لترتيب هذه الإجراءات، حتى لا تقضي على الصناعة.

وثمة سؤال مهم، فيما يتعلق بصناعة الإسمنت، بعد أن أصبح الجيش يمتلك مصنعين، وفي نفس الوقت تمت تصفية آخر شركة قطاع عام، وهي الشركة القومية للإسمنت، وهذا السؤال يتعلق بعدالة المنافسة بين باقي مصانع الإسمنت في مصر ومصانع الجيش، هل تدفع مصانع الجيش ضريبة المحاجر؟

ليس هذا فقط، ولكن ثمة شبهة احتكار، قد تقوم بها مصانع الجيش لتوريد الإسمنت للمشروعات الخاصة بالاستثمارات العامة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، أو مشروعات الإسكان الاجتماعي، أو باقي الإنشاءات التي تدرج في الباب السادس الخاص بالاستثمارات العامة بموازنة الدولة، حيث تقدر الاستثمارات الخاصة بالمباني والإنشاءات الحكومية في موازنة 2019/2020 بنحو 133 مليار جنيه.

تضرر العمال

من أكبر المضارين من السياسات الاقتصادية المتضاربة في مصر، طبقة العمال، بسبب تراجع مستوى معيشتهم وانخفاض القيمة الحقيقية لدخولهم من جهة، ومن جهة ثانية فإن هذه السياسات تحد من مساهمة القطاع الخاص في الاستثمارات التي تؤدي إلى وجود فرص عمل جديدة.

وفيما يتعلق بأزمة صناعة الإسمنت الحالية، فأول ما ستتخذه الشركات التي قررت وقف إنتاجها لحين الوصول إلى حل في أزمة تراكم الإنتاج، هو قرار وقف الحوافز والمكافآت، التي تعتبر جزءًا مهمًا من رواتب العمل. وفي المستقبل إذا ما طالت الأزمة للأجلين القصير والمتوسط، فقد تكون هناك قرارات أصعب لتسريح العمالة، خاصة أن الحكومة قد سلكت هذا المسلك في مطلع عام 2018، حيث سرحت حوالي 2500 عامل بالشركة القومية للإسمنت، بزعم الإحالة إلى المعاش المبكر، لتصفية أوضاع الشركة.

وقد يساعد الشركات العاملة في قطاع الإسمنت على وقف الحوافز والمكافآت والعديد من المزايا التي كانت تقدم لهم قبل الأزمة، ما صرح به السيسي عند افتتاح مصنع الجيش للإسمنت في بني سويف، من رفضه أن يقدم المصنع مساكن للعمال أو وسائل مواصلات، وطالب بأن يتحمل العامل هذه التكلفة نظير حصوله على راتبه.

القادم أسوأ

ليس من قبيل التشاؤم، ولكن في ضوء بيانات جهاز الإحصاء، فإنتاج مصر من النفط والغاز الطبيعي، خلال الفترة من سبتمبر 2018 إلى إبريل 2019، شهد زيادة معدلات الإنتاج عن معدلات الاستهلاك.

وقد يذهب البعض إلى أن هذا شيء إيجابي، لكن بتفحّص الأرقام، نجد أن زيادة الإنتاج ليست ناتجة عن تدفق موارد جديدة من النفط والغاز الطبيعي خلال هذه الشهور، لكن بسبب تراجع معدلات الاستهلاك، فمثلًا في إبريل 2019 كان معدل الإنتاج 6808 آلاف طن من النفط والغاز، بينما الاستهلاك 6199 ألف طن. وفي أغسطس 2018 اقتربت معدلات الإنتاج والاستهلاك من بعضهما بشدة، ولكنهما كانا أعلى من أداء إبريل 2019، حيث كان الإنتاج 6912 ألف طن والاستهلاك 6740 ألف طن.

ولذلك تتضح حقيقة وضع الإنتاج والاستهلاك من النفط في مصر، فتراجع الاستهلاك بسبب الركود، خاصة في مجال الصناعات التي تعاني من ارتفاع تكاليف الإنتاج، ومن أهم هذه التكاليف ارتفاع أسعار الطاقة.

وإذا استمر الوضع على ما هو عليه من تضارب السياسات الاقتصادية، فمصر ستشهد المزيد من التراجع في القطاعات الإنتاجية، خاصة الصناعية منها، كما سيؤثر ذلك على حصة الصادرات السلعية غير النفطية المتواضعة عند نحو 17.8 مليار دولار، وفق بيانات 2017/2018.
المساهمون