واستطاع أردوغان أن ينقل الأزمة من مربع المواجهة التركية السعودية ويضع النظام السعودي في مواجهة مع العالم برمته، وأصبح زعماء العالم يتبرأون من أي علاقة، سياسية أو اقتصادية أو شخصية، بولي العهد، حتى ألغى رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، صفقة أسلحة مع السعودية بـ 13 مليار دولار، وقال: "إن حكومته تبحث عن مخرج لصفقة سلاح تبلغ قيمتها مليارات الدولارات مع السعودية".
ونجح أردوغان في تأليب المخابرات الأميركية والكونغرس على ترامب، المتعطش لبترول المملكة والمؤيد الأكبر لولي العهد، حتى تحاشى لقاءه علنًا خلال قمة العشرين خوفًا من النقد، وبات ترامب متهما من النخب الأميركية بالتورط مع بن سلمان في مصالح شخصية تضر بقيم بلاده راعية العالم الحر، وأصبح خبراء السياسة يقولون إن قيادة أميركا للعالم الحر باتت في خطر في عهد ترامب، وإن الدول الصديقة لم تعد تنظر لأميركا على أنها الحليف الذي تثق به، كل ذلك بسبب إصرار أردوغان على المضي قدمًا في القضية.
واحتفظ أردوغان، بامتلاك زمام المبادرة في إدارة الأزمة، والإمساك بكل خيوط القضية، واتخذ من كشف الحقيقة كاملة هدفًا استراتيجيًا في إدارتها، رغم خطورة ذلك على الاقتصاد التركي الذي يخوض معركة تحدٍّ وتكسير عظام.
وأكد علي تحقيق هدفه أمام العالم من خلال قمة العشرين التي عقدت مؤخرا في الأرجنتين وهو يقول: "الحقيقة التي سعت الإدارة السعودية إلى إنكارها أولا، ثم محاولة تشويه الحقائق، وأخيرا الاعتراف بوقوعها تجلت بفضل الموقف التركي الحازم".
وكشف أردوغان عن براعه سياسية في إدارة الأزمة عندما حرص على إظهار براءة الملك سلمان من دم خاشقجي، والتأكيد على أن الملك فوق أي شبهة في الجريمة، وكذلك بحرصه على عدم الإساءة للدولة السعودية، والفصل بينها وبين شخص الجاني ولو كان ولي العهد، وتجنب بذكائه الزج بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين في أتون الأزمة الجارية إلى حافة الهاوية التي قد تنتهي بقطع العلاقات أو سحب السفراء، وألا يبدأ هو بهذه الخطوة إذا وقعت.
أردوغان لا يتاجر
كان بوسع أردوغان أن يتاجر بقضية خاشقجي ويستثمر في ولي العهد لأبعد مدى، وكما فعل ترامب الذي مرر صفقة أسلحة بـ 110 مليارات دولار كانت مؤجلة حتى وقعت الجريمة وجاء وقت المساومة، وكذلك فعل الرئيس الفرنسي، ماكرون الذي أنفذ، تحت وطأة الأزمة، صفقة أسلحة عالقة مع المملكة بقيمة 20 مليار دولار.
وزار خالد الفيصل، أمير مكة المكرمة، تركيا في 9 أكتوبر/تشرين الأول، وفي اليوم التالي، كشفت نيويورك تايمز عن تفاصيل الزيارة، وقالت إن الأمير قدم لأردوغان عرضًا بحزمة من المساعدات المالية والاستثمارات لرفع الاقتصاد التركي المتعثر، وإنهاء حصار قطر، في مقابل طي ملف خاشقجي. ووفق الصحيفة، رفض أردوغان المساومة بشكل غاضب، واعتبر العرض رشوة سياسية.
ورغم العلاقات الاقتصادية الكبيرة والمتنوعة بين البلدين، حيث تصل الاستثمارات السعودية في تركيا إلى 11 مليار دولار، 25% منها في العقارات، وصادرات تركية سنوية للمملكة بـ 4 مليارات دولار، وعمالة تركية في المملكة قوامها 100 ألف تركي، وسياحة سعودية مزدهرة إلى تركيا بلغت 640 ألف سائح سعودي العام الماضي، لم يتردد أردوغان في تمسكه بكشف الحقيقة ومحاكمة المتهمين، ما يعني أنه ينسج خيوط الجريمة حول ولي العهد لهدف قد يبدو، في تقدير أردوغان، أكبر من الاستثمارات.
ونشرت "غارديان" مقالا بعنوان، قضية خاشقجي وضعت الأمير السعودي في المكان الذي يريده أردوغان بالضبط، ونقلت فيه عن أحد كبار أعضاء العائلة السعودية المالكة أن الفيصل عاد للرياض وهو قلق، وأن أردوغان "لم يتزحزح، ولم يكن يريد أن يستمع إلى أي شيء قلناه"، وعاد الفيصل وأخبر الملك بأنه "لدينا أزمة".
وترى "غارديان" أن جريمة القتل البشع لخاشقجي تمثل لأردوغان لحظة تاريخية لقلب الطاولة، وفرصة أُهديت إليه من خلال عمل بشع ومتهور أثار موجة من الاشمئزاز حتى بين حلفاء المملكة. ونقلت الصحيفة عن مدير البرنامج التركي في معهد واشنطن، سونر تشاوباتاي، قوله: "ما يحدث أصبح صراعا استراتيجيا بين أردوغان ورؤيته للشرق الأوسط، ورؤية محمد بن سلمان وحلفائه، محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، والسيسي".
وأردوغان يرى، وفق سونر، أن: "مقتل خاشقجي فرصة جعلت بن سلمان الحلقة الأضعف لدى أعداء أردوغان والإخوان المسلمين في المنطقة، وأن هذا هو الجليد الرقيق بالفعل الذي يرقص عليه بن سلمان، ويحاول أردوغان أن يجعله أرق، ولقد رفض أردوغان التعامل مع حكومة السيسي، واصفاً إياها بأنها غير شرعية، والسيسي هو الجنرال العلماني الذي حبس الإسلاميين السياسيين، وأردوغان هو الإسلامي السياسي الذي حبس الجنرالات العلمانيين ".
ويرى سونر أن تركيا تربط دائما بين الإمارات ومحاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان منتصف العام 2016، وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، تبادل أردوغان علناً إهانات مع وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، بعدما أعاد الوزير نشر تغريدة تصف أحد القادة العسكريين العثمانيين في مطلع القرن العشرين بأنَّه من "أجداد أردوغان"، وجاء في التغريدة أنَّ هذا القائد لم يقم إلا بنهب المدينة المنورة في السعودية، ورد أردوغان منتقداً وزير الخارجية في خطابٍ له بقوله، "الزم حدودك أيها البائس".
يقول سونر إن أهداف أردوغان محددة أكثر في الوقت الحالي، وإنه "لا يريد أن يلاحق العائلة السعودية المالكة، التي يحترمها، بمن في ذلك الملك، ولكن ما يحاول الخروج به هو تهميش، أو حتى تحييد محمد بن سلمان، على الأقل عندما يتعلق الأمر بتركيا، إنه يريد أن يأخذ أحد خصومه من هذا التحالف الثلاثي الذي يعارضه".
لكن هناك من يرى أن هدف أردوغان أكبر من مجرد تحييد بن سلمان، فيقول رئيس تحرير صحيفة يني شفق التركية والقريب من أردوغان، إبراهيم قراغول، في مقال له: "نعلم أن هناك فخًا كبيرًا ينصب في المنطقة من اليمن إلى الخليج عن طريق خداع الشارع العربي بعداء تركيا وإيران، وأن قوى بن سلمان وولي العهد الإماراتي تستغل في هذا الإطار، وأن كل هذه المخططات تعتبر استعدادات أولية لما يسمى حرب الخليج الكبرى، التي سيشعل فتيلها عقب انتهاء الحرب في سورية من خلال مخططات الاستخبارات الأميركية الإسرائيلية، وقوة مصر، وأموال السعودية، والدور المحوري الذي يلعبه بن زايد وطيش بن سلمان".
لقد جعل أردوغان من مقتل خاشقجي سببًا اهتزت مكانة النظام السعودي بسببه، وفشل مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" السعودي فشلًا ذريعًا، وأصبح مشروع بن سلمان، بل ومستقبله السياسي، مطروحًا للنقاش ومحل جدل، وكان أردوغان حريصا على أن يطلع العالم على جانب من شخصية ولي العهد وكيف يدير ملفاته.