إيطاليا تدخل منعطفاً خطيراً مع تفاقم ديونها... وفرنسا قلقة

18 ابريل 2019
الديون تحاصرالإيطاليين (Getty)
+ الخط -

تخرج أوروبا من أزمة لتدخل في أخرى، فهي لم تكد تنتهي من أزمة بريكست وتداعياتها على التجارة والمؤسسات المالية وإرباكها دورة النمو الاقتصادي، حتى تقترب من أزمة مالية جديدة قد تنطلق من إيطاليا هذه المرة وتجر معها فرنسا. 

فالاقتصاد الإيطالي لم يخرج من أزمة الديون المصرفية التي ضربت منطقة اليورو في العام 2011، وكادت تفلس العديد من مصارفها. وبحسب الأرقام، فإن الديون الخاصة والحكومية ترتفع بمعدل ملحوظ في إيطاليا، في وقت تعيش اقتصادات أوروبا حالة من الضعف، ويتهيب المستثمرون وضع مزيد من المال في شراء سندات الدين الإيطالي

وحذر تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في الأسبوع الماضي، إيطاليا من مخاطر الارتفاع الجنوني في الديون. وذكر الصندوق في تقديراته، أن نسبة الديون الإيطالية إلى الناتج المحلي الإجمالي سترتفع إلى 134.4% خلال العام المقبل 2020 وإلى 138.5% في العام 2024. وهما نسبتان كبيرتان مقارنة حتى بنسبة الديون في الدول ذات النمو المرتفع. 

ويقدر حجم الديون الإيطالية حالياً بنحو 2.14 تريليون يورو. وهذا هو معدل الدين العام، أي ديون الحكومة، ولا يشمل الديون التي تحملها المؤسسات الخاصة. 
ويلاحظ أن الديون الإيطالية تزيد في وقت تنخفض نسبة النمو الاقتصادي إلى نحو 0.1%، بحسب التقديرات الرسمية الإيطالية الصادرة في الأسبوع الماضي. وبالتالي، فإن الاقتصاد الإيطالي من الناحية العملية، هو في حالة ركود، لكن المفوضية الأوروبية لا تعترف بذلك. 

ويعني ارتفاع حجم الديون عملياً ارتفاع خدمتها، أي كلفة تسديدها، سواء بالنسبة إلى السندات التي حان أجلها أو تلك التي لم يحن أجلها وتدفع عليها فائدة سنوية. وبالتالي من المتوقع أن يرتفع تلقائياً عجز الميزانية الإيطالية تبعاً لارتفاع نسبة حجم الديون. كما يلاحظ اقتصاديون، أن الديون الإيطالية معظمها مجدول للسداد خلال السنوات القليلة المقبلة. ففي العام الحالي، لدى إيطاليا سندات حان أجل سدادها تقدر بنحو 250 مليار يورو. 

وفي هذا الصدد، يقول الاقتصادي الإسباني، دانيال لاكال، إن حجم الديون الإيطالية التي يحين أجل سدادها خلال العام الجاري يعادل 50% من تلك التي يحين أجل سدادها في كل دول منطقة اليورو البالغة 19 دولة. ويشير لاكال في تغريدة على حسابه في تويتر، إلى أن خدمة هذه الديون سترفع من عجز الميزانية في وقت، توقف البنك المركزي الأوروبي عن شراء سندات الدين الحكومية بمنطقة اليورو.

يذكر أن الحكومة الإيطالية لديها خلافات متعددة مع المفوضية الأوروبية بشأن الإنفاق الحكومي، حيث تطالبها بخفض العجز بالميزانية إلى أقل من 2.4%. وكان البنك المركزي الأوروبي يشتري نحو 50% من السندات الحكومية الإيطالية، قبل أن يوقف برنامج شراء السندات خلال العام الماضي. 

ويرى اقتصاديون أن إيطاليا لن تتمكن من خدمة هذه الديون خلال السنوات المقبلة، وسط معدل النمو المنخفض وارتفاع معدل البطالة وانخفاض إيرادات الضرائب. كما لا تتوفر لديها إمكانية استخدام الحيل النقدية لخفض الدين عبر رفع معدل التضخم، والمتمثلة في خفض قيمة العملة عبر سياسات زيادة الكتلة النقدية، حيث إنها عضو في منطقة اليورو التي يحكم سياستها النقدية البنك المركزي الأوروبي وليس الإيطالي.

وبالتالي، فإن الخيارات المتاحة لدى الحكومة حالياً، هي خفض الإنفاق الحكومي وبيع مؤسسات الدولة ضمن برنامج ما يعرف بـ"التخصيص"، وفرض إجراءات تقشف صارمة. ومثل هذه "الوجبة المسمومة"، يمكن أن تشعل ثورة سياسية في إيطاليا، التي يحكمها حالياً تحالف "فايف ستار وليغا نورد"، الشعبوي. 

و"فايف ستارز" الذي كسب الانتخابات في العام الماضي يعارض في الأساس عضوية إيطاليا في منطقة اليورو ويتمرد حتى الآن على جميع القرارات الأوروبية. ومن هذا المنطلق، يبدو من المستحيل أن يقبل بتنفيذ هذه الوجبة بحسب أعضاء به، والتي ينصح بها كل من المفوضية الأوروبية ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، لأن تنفيذها يعني عملياً الانتحار السياسي.
وسط هذه المعادلات الصعبة، لا يستبعد اقتصاديون أن تتفجر أزمة المال الإيطالية، في أية لحظة وتجر معها فرنسا ثم باقي دول منطقة اليورو وتهدد النمو الاقتصادي العالمي بأكمله. 
ومن هذا المنطلق، يمكن فهم التعاون الاقتصادي والمالي الذي أجرِي قبل أسبوعين بين الحكومة الإيطالية والصين. وهو اتفاق قبلت بموجبه إيطاليا الانضمام إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية. ومعروف أن إيطاليا ليست مثل اليونان التي تعرضت للإفلاس في العام 2011، وتم إنقاذها بواسطة حزمة مالية مشتركة بواسطة المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي. فهي ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. ويقدر حجم الاقتصاد الإيطالي حالياً بنحو 2.010 تريليون دولار، بحسب إحصائيات "تريدينغ إيكونومكس". وبالتالي، فإن أية أزمة مالية ستكون لها تداعياتها السالبة على كامل أوروبا.

لكن القلق الحقيقي من تداعيات ديون إيطاليا الضخمة، يتزايد في فرنسا تحديداً لسببين: أولهما، أن الاقتصاد الفرنسي شديد الارتباط بالاقتصاد الإيطالي، حيث يقدر حجم التبادل التجاري بين الدولتين بنحو 90 مليار يورو سنوياً (أي أكثر من 102 مليار دولار). كما أن البنوك الفرنسية أكبر مقرض للمؤسسات المالية والشركات الإيطالية، حيث يقدر حجم سندات الدين الإيطالية التي اشترتها بنحو 311 مليار يورو، وذلك حتى نهاية الربع الثالث من العام الماضي 2018، وفقاً لبيانات بنك التسويات الدولية. 

أما العامل الثاني المثير للقلق في فرنسا، فهو أن الاقتصاد الفرنسي يمر بمرحلة من الهشاشة، وغير قادر على تحمل أية هزة مالية في قطاعه المصرفي. وفي حال عجز الحكومة الإيطالية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه خدمة الديون أو سداد تلك التي حان أجلها، فإن القطاع المالي الفرنسي سيتعرض لهزة، في وقت لن تكون لا أوروبا ولا فرنسا قادرة على الإنقاذ. 
وتعيش فرنسا حالياً مجموعة من الأزمات على صعيد النمو الاقتصادي والاحتجاجات المتواصلة وتداعياتها السالبة على الاستثمار الأجنبي. ويقدر اقتصاديون أن ترفع الإجراءات التي نفذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإرضاء حركة "السترات الصفراء"، من العجز في الميزانية الفرنسية لعام 2019 إلى نسبة 3.4% من الناتج المحلي.

وهذه النسبة تفوق كثيراً متوسط العجز في دول منطقة اليورو الذي تراوح نسبته بين 0.9% و1% من الناتج المحلي. وإذا كانت الدول الأوروبية تحتج وتنوي معاقبة إيطاليا على عجز 2.4%، فما الذي ستفعله مع فرنسا التي من المقدر أن يقفز العجز بميزانيتها إلى 3.4%.

يُذكر أن الحكومة الفرنسية حاولت احتواء أزمة السترات الصفراء، عبر التراجع عن قرارها بزيادة الضرائب على أسعار المحروقات، بالإضافة إلى رفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء الضرائب على ساعات العمل الإضافية وعلى معاشات المتقاعدين. وعلى الرغم من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، ما زال محتجو السترات الصفراء يواصلون التظاهر أسبوعيا، معتبرين أن "قرارات الحكومة غير كافية وليست سوى مناورة". 
وزادت التنازلات المالية التي قدمها الرئيس ماكرون للسترات الصفراء، من مخاطر الائتمان الفرنسي إلى أعلى مستوى منذ العام 2017. وبدأ المستثمرون ينظرون بحذر إلى مخاطر استثماراتهم في سندات الخزينة الفرنسية لأجل عشر سنوات، وهنالك مخاوف من رفع التأمين على الدين الفرنسي في أسواق المال.

وتتواصل خسائر الاقتصاد الفرنسي أسبوعياً بسبب هذه التظاهرات وضعف هذا الاقتصاد، وبالتالي سيكون من الصعب على فرنسا تحمل أية ضربة جديدة تتعرض لها مؤسساتها المالية والتي من شأنها أن تشكّل هزة في الاقتصاد الإيطالي. كما سيكون كذلك من الصعب على ألمانيا تحمل أعباء مالية لإنقاذ أي اقتصاد أوروبي في ظروف التباطؤ الاقتصادي الحالية.


المساهمون