لا يترك كبار المسؤولين في مصر فرصة ولا مناسبة عامة إلا ويؤكدون خلالها أنه لا علاقة للموازنة العامة للدولة بتمويل العاصمة الإدارية الجديدة الجارية إقامتها شرق القاهرة، على مساحة 168 ألف فدان، وأن العاصمة البالغة كلفتها الإجمالية 90 مليار دولار، منها 45 مليار دولار للمرحلة الأولى سيتم تمويلها من موارد ذاتية عبر الشركة الخاصة التي تم تأسيسها للإشراف على المشروع.
لكن هذا الكلام يفتقد للمنطق الاقتصادي والعرف الاستثماري، ولذا لا يصدقه الكثير، ولا يتعامل معه الاقتصاديون بجدية، إذ أن المؤشرات المالية تؤكد أن جزءاً من الموازنة العامة يذهب لتمويل مشروعات مهمة داخل العاصمة الإدارية الجديدة.
وإلا بماذا نفسر عدم توافر أي معلومات بشأن مصير الوفر المالي الكبير الذي يحصل في الموازنة العامة بسبب خفض الدعم الحكومي المقدم للوقود والكهرباء والمياه وغيرها، لماذا لم ينعكس هذا الوفر على الموازنة التي تشهد عجزا متزايدا عاما بعد أخر، مع الإشارة هنا إلى أن الوفر يقدر بعشرات المليارات من الجنيهات كما أعلن طارق الملا وزير البترول عدة مرات؟
هذه نقطة، أما النقطة الثانية فتتعلق بالجهة الممولة للحي الحكومي الضخم الذي سيتم إقامته داخل العاصمة الإدارية الجديدة، وحسب المعلومات المتاحة ستتم إقامة الحي الحكومي الذي يتضمن 18 مبنى وزاريا ومقرا للبرلمان وآخر لمؤسسة الرئاسة وثالثا لمجلس الوزراء، إضافة إلى دار للأوبرا ومجمع حكومي، وأن شركة CSCEC الصينية، ستتولى تنفيذ الحي الحكومي والمباني الوزارية.
كما يضم مشروع العاصمة الإدارية مركزا للمؤتمرات، ومدينة للمعارض، إضافة إلى مدن طبية ورياضية وذكية وحديقة مركزية.
ومن أبرز الوزارات التي سيتم نقلها إلى العاصمة الجديدة: الإسكان، الصحة، التربية والتعليم، التعليم العالي، التموين، الإنتاج الحربي، العدل، الأوقاف، ومعظمها وزارات خدمية، كما سيتم أيضا إنشاء مطار دولي بالعاصمة على مساحة 16 كيلومتراً.
وحسب تصريحات العميد خالد الحسيني، المتحدث الرسمي باسم العاصمة الإدارية، فإن تكلفة إنشاء الحي الحكومي بالعاصمة الجديدة تقدر بـ 35 مليار جنيه، تأتي من خارج موازنة الدولة كما يقول، والرقم مرشح للزيادة مع ارتفاع كلفة مواد البناء والعمالة وغيرها.
السؤال هنا: من سيتحمل تكلفة الحي الحكومي، هل تتحملها الشركة الخاصة التي تتولى عملية تخطيط وإنشاء وتنمية العاصمة الجديدة والتي لا يتجاوز رأسمالها المدفوع 20 مليار جنيه، وهذا المبلغ لا يكفي لتغطية كلفة الحي الحكومي، وهو بند واحد من عشرات المشروعات العملاقة التي يتم إقامتها بالعاصمة الجديدة؟
هل ستدفع الشركة الخاصة تكلفة القصر الرئاسي ومقار البرلمان ومجلس الوزراء والأوبرا ودار المعارض؟ وهل ستهدي الشركة مقراً فخماً لوزارة الأوقاف الثرية؟ وهل ستتبرع الشركة لوزارة الصحة بمقر فخيم كلفته مليارات الجنيهات؟
طبعاً لا، فالوزارات والمؤسسات الحكومية ستتحمل كامل كلفة إقامة مقارها في العاصمة الجديدة، فمثلاً إذا كلّف مقر وزارة التربية والتعليم، 3 مليارات جنيه، هنا سيتم خصم التكلفة من مخصصات الوزارة لدى الموازنة العامة وتوريد المبلغ للشركة المنفذة، وهكذا باقي الوزارات، والأموال التي ستدفعها الوزارات نظير كلفة المباني ستأتي من الموازنة العامة.
وهناك ما هو أخطر، فبدلا من إقامة وزارة الصحة مستشفيات جديدة بمخصصات الموازنة العامة توجه جزءا من هذه الأموال لسداد كلفة مقرها الجديد بالعاصمة الإدارية، وهكذا الحال مع الوزارات الخدمية الأخرى مثل التربية والتعليم مثلاً.
لا توجد معلومات وأرقام مؤكدة حول حجم التداخل بين الموازنة العامة المصرية ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة، أو بين أموال الدولة وأموال الشركة الخاصة المشرفة على تنفيذ المشروع العملاق، وأحد لا يعرف كيف يؤثر المشروع على حجم الخدمات المقدمة للمواطن خاصة المتعلقة بالصحة والتعليم والبنية التحتية في ظل استنزاف مقار الوزارات بالعاصمة جزءا من مخصصات الوزارات المالية.