لم تعد أنشطة الإقراض الموازي في تونس مقتصرة مثلما كان الحال خلال السنوات القليلة الماضية على مؤسسات تتخفى وراء واجهات تجارية، لتمويل المواطنين بنسب فائدة مرتفعة، وإنما توسعت لتصل إلى حد رهن ما لدى الأسر من مصوغات ذهبية مقابل إقراضها، ما قد يصل في نهاية المطاف في بعض الحالات إلى مصادرة المصوغات حال تعثر المدين عن السداد.
ويستغل الناشطون في تقديم هذه النوعية من القروض، انحسار مصادر التمويل القانونية، بعد أن أوقفت وزارة المالية قبل نحو ثماني سنوات، تقديم قروض ميسرة للمواطنين مقابل رهن الذهب كضمان لسداد القروض.
وكان القانون التونسي يجيز لوزارة المالية، تقديم قروض مقابل رهن الذهب شرط ألا تتعدى قيمة القرض نسبة 60 في
المائة من قيمة المصوغات المرهونة، غير أن حدوث توترات أمنية خلال الأيام الأولى لثورة يناير/كانون الثاني 2011، وتعرض بعض الجهات الحكومية للنهب، أدى إلى وقف التعامل بهذا الصنف من القروض. غير أن حاجة الكثير من الأسر إلى المال، ساهمت في عودة هذا الصنف من القروض، ولكن خارج أطره القانونية، عبر أشخاص يعرضون خدماتهم على الباحثين عن التمويل.
يقول المواطن ماهر الشريف لـ"العربي الجديد" إن وقف وزارة المالية تقديم قروض مقابل رهن الذهب، وكذلك رفض البنوك الحصول على الذهب كضمان للقرض، دفعه للبحث عن التمويل خارج الأطر القانونية رغم وعيه بمجازفته بخسارة مدخراته من مصوغ عائلي يحوزه منذ أعوام.
ويشير الشريف إلى أنه في حيازته مصوغات عائلية، قدرها أمين الصاغة في سوق الذهب بقيمة 50 ألف دينار (16.3 ألف دولار)، بينما قام برهن هذه المصوغات للحصول على قرض بقيمة 25 ألف دينار (8.1 آلاف دولار) لتمويل مشروعه التجاري، لافتا إلى أن المُقرض يلزمه بسداد المبلغ دفعة واحدة بعد ثلاث سنوات مقابل نسبة فائدة 20 في المائة.
ويخشى الشريف خسارة الذهب نهائيا، في حال عدم قدرته على سداد القرض في آجاله، أو الاضطرار إلى جدولة الدين مع زيادة نسبة الفائدة في حال التعثر في السداد، لكنه يقول إنه أضحى مضطرا إلى هذه المخاطرة مع تشدد النبوك في تمويل المشاريع.
وقبل عام 2011 كانت خزينة الدولة تتولى إسناد قروض صغيرة للأشخاص الطبيعيين، لا تتجاوز قيمتها 60 في المائة من قيمة المصوغ المقدم للرهن، والذي يجري تقييمه من طرف خبير معين لدى القباضة المالية (إدارة الجباية في وزارة المالية).
ويقول مصدر مسؤول في وزارة المالية لـ"العربي الجديد" إن " سرقة نحو 1300 كيلوغرام من المصوغات المرهونة خلال ما شهدته بداية الثورة من أعمال نهب، أجبر وزارة المالية على تعويض الذهب المسروق بنحو 50 مليون دينار، ودفعها إلى التوقف عن تقديم قروض مقابل رهن الذهب".
وغير بعيد عن وزارة المالية في سوق البركة للذهب، ينشط الإقراض الموازي مقابل رهن الذهب، حيث يقول تاجر الذهب عز الدين منافع، إن بعض التجار انخرطوا في هذه النوعية من التمويل، حيث يعرض مواطنون رهن الذهب مقابل تمويلات قصيرة المدى.
ويضيف منافع في حديث لـ"العربي الجديد" إن بعض التجار يفضلون عدم المخاطرة بالعمل في هذه النشاط خشية المساءلة القانونية، لكن هناك آخرون لا يكترثون كثيرا لهذه المخاوف وينشطون بالفعل في إقراض المواطنين للحصول على أرباح، وقد يصادرون المصوغ المرهون بنصف قيمته في حال تخلّف صاحبه عن سداد القرض في الأجال المحددة.
وتظهر دراسة أجراها مكتب دراسات متخصص لصالح البنك المركزي ووزارة المالية مؤخرا، ضعف تعاملات التونسيين مع الأجهزة المالية الرسمية، من مصارف ومؤسسات القرض والتأمينات والبريد، مقابل زيادة عمليات الاقتراض خارج الأطر القانونية.
ووفق الدراسة فإن 16 في المائة فقط من التونسيين يستخدمون الائتمان، بينما حصل 66 في المائة على قروض من خارج البنوك أو مؤسسات التمويل الأصغر الرسمية.
وينتقد عرفات المرساوي، عضو الغرفة الوطنية لتجار المصوغ، عدم اعتماد الذهب من قبل البنوك ومؤسسات التمويل الرسمية، كضمان للحصول على التمويل، داعيا إلى إصلاح القوانين التي تمكن من تحويل قطاع الذهب إلى مصدر لخلق الثروة في تونس.
ويقول المرساوي لـ"العربي الجديد" إن مدخرات الذهب ومقتنيات التونسيين من المعدن النفيس في تقلص كبير، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. وتتشدد البنوك في منح القروض الاستهلاكية للمواطنين خوفاً من تزايد حالات التعثر في ظل تراجع مستويات المعيشة في السنوات الأخيرة.
وفي تحقيق لـ"العربي الجديد"، نشر في فبراير/شباط الماضي، ظهر نوع آخر من الإقراض غير الرسمي، تمثل في قيام محال لبيع الأجهزة الإلكترونية والمنزلية بتقديم قروض للمواطنين، تتراوح قيمتها بين ألف وخمسة آلاف دينار.
وتتبع تلك المنشآت التجارية، طرقاً للتحايل على القانون، إذ تقدم الأموال بشكل مباشر للمقترضين، بينما يجري تدوين الديون تحت بند مشتريات أجهزة منزلية وكهربائية بالتقسيط بفائدة مرتفعة تصل إلى 50 في المائة.
ويؤكد خبراء ماليون، أن ظاهرة الاقتراض من أبواب موازية، تزيد من استفحال الأنشطة غير الرسمية، التي طاولت كل القطاعات الاقتصادية في تونس، مطالبين بضرورة معالجة الوضع في البنوك، قبل تغوّل أنشطة الإقراض غير الرسمية وتحوّلها إلى ظواهر يصعب تطويقها.
ويقول محسن حسن، الخبير المالي، إن سوق الإقراض الموازي لم يعد يقتصر على رهن الذهب وإنما أصول عقارية، بينما يتحمل المقترض شروط مجحفة تهدد حقوقه، مضيفاً أن خزينة الدولة التي كانت تقدم قروضاً مقابل رهن الذهب لم تعد قادرة على تقديم هذه الخدمة المالية ما يدفع الباحثين عن التمويل إلى سوق موازية باتت تقوم بكل العمليات المالية خارج الأطر القانونية.
ويشير حسن إلى أن السياسات النقدية في تونس تتجه نحو كبح القروض، بهدف مكافحة التضخم، غير أن هذا التشدد خلق مؤسسات قرض موازية تستغل حاجة التونسيين للمال في غياب قوانين تحميهم.
ويقول إن القروض الموثقة في رهن الذهب التي كانت تمنحها وزارة المالية لعبت دوراً مهما في تنشيط الحياة الاقتصادية في سنوات ماضية، وكانت الغاية حينها إدخال مخزون الذهب المكتنز لدى الأسر في الدورة الاقتصادية.
وبات الاقتراض تقليداً راسخاً لدى الأسر التونسية، إذ كشفت بيانات رسمية حديثة عن ارتفاع نسبة الاستدانة لدى الأسر بنسبة 117 في المائة منذ عام 2010 وحتى منتصف 2018، لتبلغ 23.1 مليار دينار (7.55 مليارات دولار)، وأصبح ربع العائلات يدفع أقساطاً شهرية للمصارف.
وبحسب دراسة للمعهد الوطني للاستهلاك الحكومي نشرت في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، فإن 36.5 في المائة من التونسيين لديهم فرد على الأقل في العائلة بصدد سداد قرض بنكي و10.3 في المائة لديهم فردان في حالة سداد، فيما يلجأ 19.6 في المائة منهم بصفة مستمرة إلى قضاء حاجاتهم عبر الاقتراض وهم في حالة سداد دائمة للديون.
لكن خبراء اقتصاد يشيرون إلى أن الأرقام التي تقدمها البنوك أو البنك المركزي عن حجم تداين العائلات لا يعكس الواقع الحقيقي لديون التونسيين، وخاصة أنّ الأسر تلجأ إلى الاقتراض من الشركات المالية أو الأصدقاء والأقارب والصناديق الاجتماعية والأشخاص الناشطين في الإقراض الموازي، مع الاعتماد أيضَا على الشراء بالتقسيط من المحلات، وهذه الوسائل لا يتم رصدها رسمياً.
تظهر بيانات صادرة عن البنك المركزي مطلع العام الجاري، أن حجم الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك تضاعف ثلاث مرات خلال ثماني سنوات، ليصل في فبراير/ شباط الماضي إلى 16.24 مليار دينار (5.35 مليارات دولار)، مقابل نحو 5 مليارات دينار في 2010.
ويرجع خبراء ارتفاع الكتلة النقدية خارج البنوك، إلى تفاقم ظاهرة الاقتصاد الموازي والتوجه نحو التعامل نقداً بسبب الأزمة الاقتصادية وانعدام الثقة في المنظومة البنكية. وطالبت منظمة الدفاع عن المستهلك في أكثر من مناسبة، بضرورة قيام أجهزة الرقابة بمواجهة انتشار الأنشطة غير الرسمية، التي تبتلع وفق تقديرها أكثر من نصف الاقتصاد.
ويعاني التونسيون من ضعف الأجور وتآكلها بسبب زيادة نسبة التضخم خلال السنوات الأخيرة وعدم تغطية الزيادات في المعاشات التي يحصلون عليها سنويا للزيادة المتواصلة في أسعار المواد المعيشية.
ويشترط صندوق النقد الدولي، خفض تونس كتلة الأجور ووقف الانتدابات (التعيين) في القطاع الحكومي، لمواصلة صرف باقي شرائح القرض المتفق عليه في مايو/أيار 2016، ما أثار حفيظة النقابات التي قادت حراكاً ضد تنفيذ هذا الشرط.
وتكشف بيانات مشروع قانون المالية (الموازنة) لعام 2020، عن ارتفاع كتلة الأجور بنسبة 10.9 في المائة عن العام الجاري، بينما تستحوذ بالأساس على ما يقرب من 40 في المائة من إجمالي نفقات الدولة و15 في المائة من الناتج الإجمالي.
وخلال السنوات الثلاث الماضية سجل التضخم في تونس معدلات قياسية لم تعرفها البلاد منذ عام 1989، حيث وصل في يونيو/حزيران الماضي إلى 7.8 في المائة، قبل أن يتراجع خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى 6.5 في المائة، فيما بلغت نسبة البطالة 15.2 في المائة، مقارنة بنحو 12 في ائة في 2010، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
ورغم النجاحات السياسية التي حققتها تونس بعد الثورة، بتداول ديمقراطي للسلطة، تشهد بين الحين والآخر احتجاجات مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية والتشغيل.
ووفق رصد حديث أجراه منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مجتمع مدني)، فإن تونس شهدت 1986 تحركاً احتجاجيا خلال الربع الثالث من العام الجاري (يوليو/تموز حتى نهاية سبتمبر/أيلول)، مقابل 1789 تحركا احتجاجيا خلال نفس الفترة من العام الماضي. وتظل محافظة القيروان وسط غرب تونس، الأكثر تسجيلا للاحتجاجات، تليها محافظة قفصة (جنوب غرب)، الأمر الذي يرجعه محللون إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر في المناطق الجنوبية من البلاد.