صندوق النقد والتقييم المزاجي لمصر

20 يوليو 2018
المواطنون يعانون من شروط الصندوق (فرانس برس)
+ الخط -
قراءة الأرقام الخاصة بالمؤشرات الاقتصادية على غير حقيقتها، تضر بالاقتصادات النامية أشد الضرر، وهذا الواقع ينطبق على حالة البيان الصادر عن الاقتصاد  المصري، من قبل صندوق النقد الدولي  في 2 يوليو/تموز 2018، بعد اعتماد المراجعة الثالثة من مجلس إدارة الصندوق، وحصول مصر على شريحة بنحو ملياري دولار.

من المقبول أن يذهب بيان الصندوق إلى أن مصر  استحقت هذه الشريحة نظير تطبيقها متطلبات صندوق النقد من إجراءات مالية ونقدية، أما أن يذهب الصندوق إلى أن هناك تحسنًا حدث في واقع الاقتصاد المصري، ويدلل على ذلك بأن هناك احتياطيا قويا من النقد  الأجنبي، وتراجع معدلات التضخم، فهذا ما يتنافى مع أبسط قواعد التحليل الاقتصادي.
الأرقام وغياب تفسير الحقائق

مرارًا قلنا إن الأرقام تصف الواقع ولا تفسر الحقائق، وهذه القاعدة تنطبق بشكل كبير على ما ذكره صندوق النقد عن مؤشرين مهمين، وهما انخفاض التضخم، وارتفاع الاحتياطي الأجنبي؛ فانخفاض التضخم تحقق بسبب استكمال موجة التضخم ذروتها الزمنية وهي 6 أشهر، ومن الطبيعي أن تنخفض بعد ديسمبر/كانون الأول 2017.

ولم يكن انخفاض المعدل لنجاعة أدوات البنك المركزي، أو سلامة اتجاهات السياسات النقدية والاقتصادية، بدليل، أننا سنواجه في مصر موجة جديدة من التضخم مع تطبيق إجراءات رفع أسعار الوقود والكهرباء ورسوم أخرى تتعلق بالجوانب الإدارية الخاصة بالمصانع والمنشآت التجارية.

وأفضل شاهد على عجز السياسة الاقتصادية في مواجهة موجة التضخم القادمة، هو قرار البنك المركزي المصري بالاستمرار على سعر الفائدة الحالي، وعدم تخفيضه عن معدل 17.8% للإقراض، وهو معدل عال بالنسبة لتكلفة التمويل في المشروعات الإنتاجية.

أما الاحتياطي الأجنبي القوي والذي بلغ أكثر من 44 مليار دولار بقليل، فلا يغيب عن خبراء الصندوق أن الزيادة في الاحتياطي مرجعها الرئيس هو الحصول على المزيد من القروض الخارجية، كما حدث في شهري إبريل/نسيان ومايو/أيار 2018، حيث حصلت مصر على نحو 7 مليارات دولار عبر سوق السندات الدولية.

ولو كان هذا الاحتياطي قويًا كما وصفه بيان صندوق النقد، لما طلبت مصر في مطلع 2018 تأجيل سداد التزاماتها تجاه ودائع دول الخليج، التي حلت آجالها، ولو كان الاحتياطي قويًا لما لجأت مؤسسات وشركات عامة للحصول على قروض خارجية عبر بنوك مصرية وأجنبية، كما حدث أخيرًا من قبل هيئة قناة السويس، والهيئة العامة للبترول والشركة القابضة للكهرباء.

وأحسب أنه لا يخفى على خبراء صندوق النقد الاطلاع على تفاصيل الدين الخارجي بمصر، والمنشورة عبر النشرة الإحصائية للبنك المركزي لشهر إبريل 2018، إذ تبلغ مديونية السلطة النقدية - البنك المركزي - نحو 27.8 مليار دولار.

بطالة وركود

الغريب أن السطور الأولى لبيان صندوق النقد أشارت إلى أن "برنامج الحكومة الإصلاحي ساعد على تسريع النمو وتخفيض التضخم والبطالة وتقليص مستويات العجز في الحساب الخارجي والمالية العامة".

والغريب أن تقرير بنك الإمارات دبي الوطني أشار في تقرير صادر حديثًا ومنشور في وسائل الإعلام المصرية إلى استمرار الركود وتراجع الأوضاع التجارية للقطاع الخاص غير النفطي بنهاية الربع الثاني من عام 2018، وأن تراجع الطلب أدى إلى استمرار الانكماش الاقتصادي، وأفادت شركات القطاع الخاص بأن هبوط الأعمال الجديد أدى إلى تراجع مستويات التوظيف. فكيف يمكننا قبول أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حول تراجع معدلات البطالة؟

أما النتيجة المبهرة التي توصل إليها بيان الصندوق وتروج لها تصريحات المسؤولين المصريين، فهي أن الإصلاحات الاقتصادية أدت إلى تراجع العجز بالحساب الخارجي والمالية العامة، لكن ما هي تفاصيل هذه النتائج؟ وما السبب وراء هذا التراجع؟

في ما يتعلق بتراجع الحساب الخارجي، فله عدة أسباب على رأسها استمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في الدين العام الحكومي، والتي وصلت إلى نحو 7.3 مليارات دولار خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2018، وهي زيادة تفوق ما تحقق من زيادات في مؤشرات تحويلات المصريين العاملين بالخارج، أو الصادرات السياحية أو إيرادات السياحة، وبالتالي فالتحسن هنا سلبي، لأن استثمارات الأجانب في الدين العام، أموال ساخنة، وهي موجودة لفترة ولن تستمر إذا اتجهت الحكومة لتخفيض سعر الفائدة.

أما تراجع المالية العامة، أي الموازنة العامة للدولة، فهو أكبر خدعة، نعم تراجع العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب إجراءات تخفيض الدعم، وزيادة العديد من أسعار السلع والخدمات الحكومية، زيادة الضرائب، لكن عجز الموازنة العامة من حيث قيمته يتخذ منحى تصاعديا مخيفا، وذلك نتيجة السياسة التوسعية في الدين العام، ووصول فوائد الديون بموازنة عام 2018/2019 إلى 541 مليار جنيه، وبما يعادل 31% من إجمالي الإنفاق العام.

ومن هنا نستطيع أن نقول إن انخفاض عجز الموازنة العامة كنسبة من الناتج مجرد خدعة حسابية، لأنه لم يحقق الهدف منه، وهو تحسن أوضاع الموازنة، وتخففها من أعباء الدين، وإعطاء ملاءمة مالية أفضل تمكن من تخصيص ما يكفي بالموازنة لمصلحة قطاعات الإنفاق الاجتماعي بالتعليم والصحة والبنية الأساسية.

ختامه علقم

كالعادة في شأن تناول بيانات صندوق النقد الدولي، حيث تتبنى خطابًا تفاؤليًا، ثم تخفي المطالب الحقيقية في آخر فقرة أو فقرتين، وعادة ما تكون هذه المتطلبات هي أوجه القصور الشديدة التي لم تقم بها الحكومة، أو لا توفرها إجراءات الإصلاح التي يفرضها الصندوق، وهو ما نلمسه في حالة مصر، حيث أشار بيان الصندوق إلى الآتي: "من الضروري وضع نموذج للنمو الأكثر احتواء للجميع ويقوده القطاع الخاص لاستيعاب الزيادة الكبيرة المتوقعة في القوة العاملة على مدار الأعوام الخمسة القادمة".

ونجد أن بيان الصندوق استحى من ذكر تغول الجيش على مقدرات الاقتصاد المصري، ومزاحمة القطاع الخاص، فضلًا عن أن الزيادة المتحققة في معدل النمو الاقتصادي، لا تنم عن نمو احتوائي، فغالبية القطاعات التي تقود النمو، لا تحقق قيمة مضافة عالية أو فرص عمل مستقرة ودائمة، فقطاعات الاتصالات والتشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة هي التي تقود النمو، بينما الصناعة والزراعة في الخلف.

ويهدف جدول أعمال الإصلاحات الهيكلية الموسعة في إطار برنامج السلطات الإصلاحي إلى معالجة المعوقات الأساسية أمام تنمية القطاع الخاص، بما فيها اتخاذ إجراءات لزيادة درجة الشفافية في تخصيص الأراضي الصناعية، وتعزيز المنافسة والمشتريات الحكومية، وتحسين مستوى الشفافية والمساءلة في المؤسسات المملوكة للدولة، ومعالجة الفساد.

وهنا أيضًا استحى بيان الصندوق من أن يشير إلى معدلات الفساد المرتفعة، وغياب الشفافية، وإهمال الدور الرقابي لمجلس النواب، وغيره من الجهات الرقابية التي تسيطر عليها الحكومة، من حيث تعيين موظفيها ومسؤوليها، وتملك قرارات فصلهم، ومدهم بالمكافآت وغيرها من المزايا العينية والمادية.

نسطيع القول إن كلاً من صندوق النقد والحكومة المصرية لم يستوعب الدرس من تجربة 1991/1992، وكذلك من السياسات الاقتصادية النيولبرالية التي طبقت في ظل حكومة أحمد نظيف؛ فالتحسن الرقمي في المؤشرات الكلية للاقتصاد الكلي، دون مردود جوهري، يعود بالنفع على حياة المواطن، هو وهم، لم يعد يقبل به المواطن، ويرفض استمراره.

المساهمون