تعتبر "صفقة القرن" أخطر مؤامرة تستهدف القضية الفلسطينية، ولا سيَّما أنّ بنودها المعلنة تختلف جذريّاً عمّا يدور في الخفاء، وتحاول الجهات الأميركية والإسرائيلية، التي تستخدم أساليب المباغتة، جعل مبلغ 50 مليار دولار للاستثمار على مدى عشر سنوات جذّاباً للغاية بغية تلميع خطّة السلام الأميركية والتستُّر على السلسلة الطويلة من الخداع والانحياز الكامل إلى الطرف الصهيوني.
ويردِّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مسمع العالم وبمباركة بعض الدول العربية أنّ الخطّة الاقتصادية جاهزة للتنفيذ في حال تحقيق السلام بشروط تتَّفق مع هذه الرؤية، ويؤكِّد عدم حصول السلطات الفلسطينية على المال ما لم توقِّع على البنود وتستوفي كل الشروط، ضارباً عرض الحائط بكل الأعراف والمواثيق والمعاهدات الدولية.
ليس هناك أيّ داعٍ لقراءة كل بنود خطّة السلام المزعومة لأخذ فكرة عن حجم التحايل الأميركي - الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية مقابل ملاليم معدودة، بل يكفي فقط معرفة أنّ فلسطين لن تنال إلاّ الفتات من مبلغ الـ 50 مليار دولار الذي سيتم تسخيره بالدرجة الأولى لحشد موافقة بعض الدول العربية.
فعلى سبيل المثال سيكون لكل من الأردن ومصر ولبنان نصيب مهم من كعكة الـ 50 مليار دولار، وسيتمّ تخصيص ما لا يتعدَّى 28 مليار دولار للفلسطينيين وتحميلهم منية السماح لهم بالعيش على أرضهم، كما سيتمّ تخصيص جزء من ذلك المبلغ أيضاً للأمم المتحدة التي لا تفوِّت كعادتها فرصة للانقضاض على المنح الدولية الموجَّهة للدول النامية والفقيرة والمغلوبة على أمرها.
وستستفيد هذه المرة أيضاً من جزء معين من مبلغ 50 مليار دولار لتتولى الإشراف على عدد من المشاريع الاستثمارية في الأراضي الفلسطينية، كما سيتكفل بنك التنمية متعدد الأطراف (وهو عبارة عن صندوق استثمار جديد مقترح من قبل كوشنر) بعملية تسيير وتقسيم المبلغ فيما بين الدول السابقة الذكر والأمم المتحدة وكذا الفلسطينيين الذين لم يمنحهم كوشنر في خطته حتى حق إدارة الأموال الممنوحة لهم بأنفسهم.
لا شكّ في أنّ مبلغ الـ28 مليار دولار المُقسَّم على دفعات خلال فترة 10 سنوات يُعدّ صفقة ناجحة للجانب الصهيوأميركي، وزهيداً جدّاً مقابل التنازلات السياسية لإسرائيل بشأن المستوطنات والقدس والأمن وما إلى ذلك.
والعذر الأقبح من ذنب، أنّ الإدارة الأميركية تتمسَّك بحجّة عدم وجود فرصة مماثلة تُمكِّن الفلسطينيين من الظفر بهذا المبلغ من خلال تقديم مقارنة عن حجم الفوائد التي قد يضطرّون إلى تسديدها في حال حصولهم على قروض بمبلغ مماثل من خلال التأكيد أنّ متوسط أسعار الفائدة على القروض التي يمنحها البنك الدولي للإنشاء والتعمير لدول نامية متشابهة الحجم مع فلسطين مثل الأردن وتونس ولبنان يراوح ما بين 2 إلى 4 بالمائة، بالإضافة إلى سداد القرض نفسه، وهذا ما يعتبر مبلغاً ضخماً جدّاً على الفلسطينيين لا يمكنهم الاستفادة منه إلا عبر الرضوخ للخطّة الترامبية الجهنمية، حيث تتجاهل الشطحات الترامبية المنطق بامتياز لتعطي فكرة بسيطة للفلسطينيين عن حجم عبء الدين الذي سيتجنَّبونه إن قبلوا بكل بنود مشروع كوشنر الذي صُمِّم لتدمير السلام في المنطقة.
وتتجلَّى "البجاحة" الترامبية في جلب مستثمرين من القطاع الخاص لتمويل ما قيمته 12 مليار دولار من مبلغ الـ50 مليار دولار المخصص لتمرير صفقة القرن، علماً أنّ هناك صعوبة كبيرة في إيجاد مموِّلين خواص للاستثمارات في الأراضي الفلسطينية ما لم يكن هناك عائد قوّي على الاستثمار، إلى جانب وجود مخاطر جيوسياسية كبيرة يرغب العديد من المستثمرين في الابتعاد عنها، وتكمن الحيلة في أنّ المليارديرات الأميركيين والأوروبيين اليهود الداعمين للكيان الصهيوني هم من سيرحِّبون بفكرة ضخّ أموالهم في الاستثمار في الأراضي الفلسطينية التي طال انتظارهم في إحكام قبضتهم عليها بصدر رحب.
من غير المعقول أن لا ينتهز ترامب وصهره كوشنر فرصة هشاشة الاقتصادات العربية، ودمار أغلب الدول العربية المجاورة لفلسطين، وطيش بعض الحكام الخليجيين في تصفية القضية الفلسطينية وقضايا القدس واللاجئين الفلسطينيين بأبخس الأثمان.
فعلى سبيل المثال، لبنان المجاور والمثقل بالديون والذي يمرّ بفترة من عدم الاستقرار، تبدو أنّها طويلة، يجد نفسه منبوذاً من الأسواق الأجنبية لدرجة أنّه قد يضطرّ إلى دفع ما يصل إلى 15 في المائة للدين المستقبلي.
ولم تسلم مصر أيضاً من الأزمات الاقتصادية التي تنخر اقتصادها الذي يعاني أصلاً من تباطؤ شديد ينعكس سلباً على الأحوال المعيشية للمواطنين البسطاء، كما تحاول مصر جاهدة الحصول على تمويل لتطوير البنية التحتية لشبه جزيرة سيناء المضطربة حيث يحارب الجيش وقوات الأمن بكل ما أوتوا من قوّة أولئك المتشدِّدين المرتبطين بتنظيم داعش الإرهابي.
حتى الحكومة التونسية المستقرّة والأفضل حالاً من لبنان لا تجد نفسها أمام أيّ خيار سوى تقديم أسعار فائدة تراوح بين 6 و7 في المائة على سنداتها الحكومية، وهذا ما يعزِّز طموح ترامب في إبرام صفقة القرن في أقرب الآجال من خلال إخضاع تلك الدول ومنحها التمويل اللازم عبر طريقة واحدة لا غير، المتمثلة بالتأييد التام لهذه الصفقة المشؤومة.
ولا تعتبر الحاجة إلى المال الدافع الوحيد وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث يعلم ترامب كيف يمسك الدول الخليجية من يدها التي تؤلمها، فهو يدرك تماماً الخوف الهستيري للمملكة العربية السعودية من تهديدات إيران وجماعة الحوثي اليمنية، وبالتالي عدم استغنائها عن الدعم الأميركي الذي سيكون مشروطاً بتأييدها لصفقة القرن وتطبيعها المضاعف مع دولة الاحتلال، وخصوصاً في ظلّ قيادة وليّ العهد محمد بن سلمان الذي حمَّله المجتمع الدولي مسؤولية جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي التي أفلت من عقابها القتلة، ولا سيَّما مع وجود إدارة ترامب التي تنسى كل ما يتعلق بالإنسانية عندما يوضع المال فوق طاولة المفاوضات، وكيف لا ورئيس الولايات المتحدة هو سمسار العقارات ترامب المستعدّ لعرض المواقف الأميركية للبيع لمن يدفع أكثر.
وعلاوة على ذلك، إنّ تطبيع السعودية يجرّ في طياته تطبيع دول خليجية أخرى متأثِّرة بقرارات المملكة كالإمارات والبحرين، ويضمن تطبيع وتأييد دول عربية أخرى تفتقر إلى المال، فحكام المملكة يتمتَّعون بمهارة أيضاً في تهديد الدول التي لا تسير في قافلتها، تحت إمرة البوصلة الأميركية الإسرائيلية، بقطع المساعدات المالية عنها.
خلاصة القول، أنّ وجبة الغذاء التي يدَّعي كل من ترامب وصهره جاريد كوشنر أنّها مجانية للدول العربية بهدف ضمان تطبيعها التام مع الكيان الصهيوني ليست سوى مأدبة على شرف المخطَّط الأميركي الصهيوني لبيع القضية الفلسطينية، وتذويب قضية اللاجئين وحسمها تحت رعاية الصمت العربي المطبق، وما إن تنتهي تلك المأدبة سيعود ترامب للتفكير مجدداً في نهش جسد الأمة العربية من جهة أخرى، وهذا ما ينبغي للحكام العرب الاستعداد له، فالكل سيأتي دوره على لائحة ترامب.