إملاءات و"تمنيات" صندوق النقد الدولي لمصر

30 يناير 2018
لاغارد في لقاء سابق مع السيسي (GETTY)
+ الخط -



قطعت مصر، في مطلع التسعينيات، خطوات متقدمة على صعيد السياسات النقدية والمالية، من خلال تنفيذ خريطة برنامج صندوق النقد الدولي، لكنها تعثرت، فيما بعد، فيما يخص السياسات الإنتاجية، والنهوض بقطاعي الصناعة والزراعة، مما كرّس لأزمة مصر الاقتصادية، وجعل ما تحقق من ارتفاع معدلات النمو، وانخفاض عجز الموازنة، وتراجع التضخم، وتحرير سعري الفائدة والصرف، مجرد نجاح عابر، لا يستند على بنية اقتصادية مؤهلة للاستمرار ومواجهة التقلبات الاقتصادية الخارجية.

وكانت أزمة دول جنوب شرق آسيا 1997، وأزمة السياحة المصرية في مواجهة أحداث العنف والارهاب، ثم أحداث 11 سبتمبر في أميركا 2001، واحتلال العراق 2003، محطات كاشفة لهشاشة الإصلاح الاقتصادي في مصر. وكانت النتيجة أن حصدت مصر التداعيات السلبية اقتصاديًا واجتماعيًا، مما مهد لأحدث ثورة 25 يناير، فالأرقام الاقتصادية تظهر تحسنًا في معدلات النمو، ولكن ما ثمنه؟ وما هي طريقة توزيعه؟ ومن المستفيد منه؟

نمو يعتمد على القطاعات الخدمية والريعية التي لا تخلق فرص عمل دائمة ومستقرة، وتحتكر فئة قليلة عوائده، مما فرّخ أعدادا هائلة من العاطلين، ووجود رغبة كبيرة لدى الشباب في الهجرة للخارج.

وكان السبب في هذه النتائج الكارثية لبرنامج التسعينيات، أن الإدارة السياسية للبلاد لم تكن جادة في إحداث إصلاح سياسي واجتماعي مصاحب للإصلاح الاقتصادي، كما أن صندوق النقد لم يكن جادًا في إلزام الحكومة المصرية، بعدالة توزيع الثروة، أو تقديم إجراءات هيكلية لمواجهة الفساد.

والملاحظ أن نفس الأداء والنتائج تتحقق في تجربة مصر بعد الانقلاب العسكري، حيث وقّعت مصر برنامجها بشكل رسمي في نوفمبر 2016. وبعد عام من متابعة الصندوق، جاء البيان الصحافي لصندوق النقد، في 23 يناير الحالي، عن متابعة الوضع الاقتصادي لمصر، ليضعنا أمام ثنائية الإملاءات والتمنيات، وهي معادلة غير عادلة سيدفع الشعب المصري ثمنها في القريب العاجل، فضلًا عن الأجيال القادمة. والسطور التالية تستعرض ما جاء في بيان الصندوق من الثنائية المربكة.

الإملاءات

1-ثمة مجموعة من المطالب تم ذكرها في بيان الصندوق، تمت الإشارة إليها باعتبارها ضرورة لاستمرار نتائج سماها الصندوق بأنها إيجابية. ويفرض هذا النجاح، تحصيل إيرادات أكبر، وعلل ذلك بزيادة الإنفاق الاجتماعي في الموازنة على التعليم والصحة، وهذا صحيح، ولكنه طرح لتحقيق ذلك أمرين من المستحيل أن تقدم عليهما حكومة مصر، وهما زيادة الإعفاءات الضريبية، والتوجه إلى تبنّي الضرائب التصاعدية، وزيادة كفاءة الإدارة الضريبية.

الملفت للنظر هنا أن توصيات الصندوق متضاربة، ففي الوقت الذي يطالب فيه بزيادة الإعفاءات الضريبية، يقبل من الحكومة تطبيق الضرائب المضافة، وزيادة معدلات ضرائب الدمغة.

كما أنه فيما يتعلق برفع كفاءة الإدارة الضريبية، لم يطالبها بسد أبواب الفساد في منظومة الضرائب، أو تحقيق عدالة ضريبية، بين فئات المجتمع الضريبي، فهيكل الضرائب المصرية يميل بشكل ملحوظ للتركيز على الضرائب غير المباشر (الضرائب على السلع والخدمات + الضرائب الجمركية)، والتي تمثل نحو 54% من إجمالي الإيرادات الضريبية، في عام 2016/ 2017. وذلك بسبب الفساد في الضرائب المباشرة (الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية) والتي تمثل نحو 34% من إجمالي الإيرادات الضريبية.

ولا يتوقع أن تتبنى الحكومة المصرية تطبيق الضرائب التصاعدية، في ظل تهرّبها من تطبيق حقيقي للحدين الأدنى والأعلى للدخول، وكذلك انتشار الفساد في القطاعين العام والخاص.
2-إلغاء معظم دعم الوقود، بحجة الوصول إلى تخفيض عجز الموازنة، والحفاظ على أولويات الإنفاق الاجتماعي.

ولا يذكر بيان الصندوق أي أثر لرفع الدعم عن الوقود على معدلات التضخم، أو مستوى معيشة الأفراد. كما لا يشير، من قريب أو بعيد، إلى تحسين أجور العاملين، كجزء مكمل لمعادلة الأجور والأسعار.

الأمنيات

- يرى الصندوق أنه لابد من أن تنسحب الحكومة من النشاط الاقتصادي لصالح القطاع الخاص، لكي يكون رائدا للتنمية، ويستطيع أن يوفر 700 ألف فرصة عمل سنويًا. لكن الصندوق لا يتذكر أن الجيش يسير بخطى متسارعة للسيطرة على أكبر قدر ممكن من مقدرات الاقتصاد المدني، ولا ندرى ما هو تصنيف الجيش في أجندة صندوق النقد، هل هو قطاع عام؟

إذا كان كذلك، فلماذا يطالب الصندوق الحكومة بتنفيذ برنامج للخصخصة سيشمل عددا من الشركات والبنوك، بينما الجيش يقوم بامتلاك مشروعات إنتاجية وخدمية، مثل مزارع الأسماك، وامتلاك المدارس الدولية، والصيدليات، والاتجار في ألبان الأطفال والأدوية، فضلًا عن احتكار مشروعات الإنشاءات العامة.


- ولتحقيق تمكين القطاع الخاص من ريادة التنمية، أشار بيان الصندوق إلى مجموعة من الأولويات، منها تحسين الحوكمة والشفافية في المؤسسات المملوكة للدولة، والحد من تصورات الفساد. وهي أمنيات عزيزة للصندوق، ولكنه لم يطالب الحكومة بمجموعة من الإجراءات لتحقيق ذلك، سواء في شكل برامج زمنية، أو تمكين الأجهزة الرقابية من ممارسة عملها، وكأن خبراء صندوق النقد الدولي لم يطالعوا تراجع ترتيب مصر على مؤشر الشفافية في عام 2016 إلى 108 من بين 176 دولة، بعد أن كان ترتيبها 88 في 2015، أي أن الفساد في عهد السيسي يتزايد بمعدلات عالية.

- أشار البيان إلى أن المهمة الحالية للاقتصاد المصري، تعميق الإصلاحات لزيادة النمو، وضمان استمراريته، وتوزيع ثماره على السكان، خاصة الشباب والمرأة، ويتناسى الصندوق أنه أوضح أن مصادر تحسين النمو في العام الماضي ترجع إلى تحسّن إيرادات السياحة وتحويلات العاملين في الخارج، وهي مصادر ريعية، ولا تساهم في حل جذري لمشكلات اقتصاد مصر، كما أن بيانات تقرير متابعة الأداء الاقتصادي والاجتماعي لعام 2016/ 2017، والذي تصدره وزارة التخطيط المصرية، بيّن أن الناتج المحلي بلغ 4.2%، متراجعًا عما تحقق في 2015/ 2016 عند معدل 4.3%.

ولم تبين لنا الحكومة أو الصندوق الآليات الضامنة لعدالة توزيع ثمار النمو، بفرض استمراره حتى عند المعدلات المعلنة، في ظل غياب العدالة الاجتماعية، البادية من حصول فئات بعينها على مميزات وظيفية وغيرها من الأمور المادية دون غيرها من باقي فئات الشعب، مثل القضاة والإعلاميين والعاملين في الجيش والشرطة. ولا تقف هذه المزايا على هؤلاء الأفراد العاملين في تلك المؤسسات، ولكن تمتد إلى أسرهم.

إن أهم مقومات عدالة توزيع الثروة وشمول عوائد النمو الاقتصادي لأكبر شريحة من المجتمع، أن يتوفر مناخ ديمقراطي، ويكون هناك دور للمؤسسات الرقابية، وكذلك المجتمع المدني، وهي أمور ماتت تمامًا مع انقلاب 3 يوليو 2013، وللأسف يغض خبراء الصندوق الطرف عن هذه الضروريات، ولا يهتمون سوى بأرقام صماء.

مغالطات الصندوق

يشير بيان الصندوق إلى أهمية توفير الحماية للأسر الأقل دخلًا، والتحول للدعم النقدي، من أجل مواجهة تراكم الدين العام، وهو نفس الأمر الذي تكرر عند الحديث عن تخفيض عجز الموازنة، ويتناسى الصندوق عدة حقائق، أبرزها تصاعد الدين العام ليصل إلى نسبة 124% من الناتج المحلي بنهاية يونيو 2017.




وبالرجوع إلى موازنة 2017/ 2018، نجد أن مخصصات الأمان الاجتماعي بلغت 15.4 مليار جنيه، موزعة على 3.4 ملايين أسرة، منها 1.7 مليون أسرة يغطيها معاش الضمان الاجتماعي بنحو 7.5 مليارات جنيه، وكذلك 1.7 مليون أسرة ببرنامج تكافل وكرامة بنحو 7.7 مليارات جنيه، بواقع 365 جنيها في الشهر للأسرة، وهو دعم بكل الأحوال لا يراعي أقل مستوى من الاحتياجات الضرورية للأسر.
المساهمون