فعلها أردوغان قبل يومين، ولم يجرؤ ترامب وغيره من قيادات دول العالم التي تحترم استقلالية البنوك المركزية على فعلها أو الاقتراب منها طوال سنوات، عزل الرئيس التركي محافظ البنك المركزي، مراد تشتين قايا، يوم السبت، وعين بدلاً منه نائبه مراد أويصال.
ورغم تلويح الرئيس الأميركي المتواصل بعزل رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي"، جيروم باول من منصبه، وضغوطه المستمرة عليه منذ توليه منصبه، إلا أنه لم يفعلها، لأنه يدرك جيداً أهمية استقلالية البنوك المركزية في إدارة السياسة النقدية، وضرورة أن تظل هذه البنوك بمعزل عن الضغوط الحكومية وألاعيب السياسة والاعتبارات الانتخابية والحزبية الضيقة.
صحيح أن الدستور التركي يتيح لأردوغان عزل محافظ البنك المركزي ولا يتيح الدستور الأميركي ذلك لترامب، لكن من المتعارف عليه عالمياً أن البنوك المركزية لديها الاستقلالية الكاملة في تحديد اتجاهات أسعار الصرف والفائدة، ومعدلات التضخم، وحجم السيولة المتوافرة في الأسواق، وكميات طباعة النقود، والرقابة على البنوك وأسواق العملة، وحماية أموال المودعين وغيرها.
كما أن هذه البنوك لا تأخذ تعليماتها من رؤساء الدول والحكومات في الدول الغربية، ولها مجالس إدارات هي من تأخذ القرارات وتحدد أولويات عملها.
والأهم من ذلك أن قوانين معظم دول العالم تنص صراحة على استقلالية البنوك المركزية وعدم جواز عزل محافظيها إلا في حال ارتكاب خطئاً فادحا أو جريمة عظمى أو أخل بمهام وظيفته.
والرئيس التركي يكافح منذ سنوات لخفض سعر الفائدة، لأن الخفض، من وجهة نظره، ينعش الاقتصاد القومي وقطاعات إنتاجية موفرة لفرص العمل مثل الصناعة والصادرات، كما أن خفض الفائدة على القروض المصرفية، وبالتالي على تكلفة الأموال الممنوحة من البنوك، يشجع على زيادة الاستثمارات المباشرة.
بل، ويعتبر أردوغان أن أسعار الفائدة العالية لعنة "وأس المفاسد"، وأم الشرور، وتعهد أكثر من مرة بمحاربتها، وطالب البنك المركزي بتخفيضها لمعالجة التضخم وتشجيع الاستثمار والمشاريع التنموية في البلاد، وهي الركيزة الأساسية التي استندت عليها حكومات العدالة والتنمية طوال 15 عاماً من حكم البلاد.
ولا يترك الرئيس التركي مناسبة إلا ويحذر من مخاطر الفائدة العالية على الاقتصاد، بل إنه يطلق على نفسه لقب "عدو أسعار الفائدة،" ويعارض بصورة واضحة ومعلنة ارتفاع الفائدة على القروض المصرفية.
ولطالما هاجم أردوغان ما اصطلح على تسميته بـ"لوبي الفائدة" في إطار حربه الطويلة على أسعار الفائدة. وبسبب هذه الرؤية دخل أردوغان في معارك مع البنك المركزي كانت نتائجها سلبية على سوق الصرف وسعر الليرة.
ومن هنا جاء قراره الأخير عزل محافظ البنك المركزي الذي رفض مرارا خفض سعر الفائدة لأسباب اقتصادية وجيهة من وجهة نظره، فخفض السعر مع وجود تضخم عالي وضغوط على سوق الصرف يمكن أن يهدد سعر الليرة ويدفع المدخرين نحو حيازة العملات الأجنبية والتخلص من العملة المحلية، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للاقتصاد التركي.
ما بين أردوغان وترامب خيط مشترك هو تحميل البنوك المركزية مهمة إنعاش الاقتصاد الكلي وزيادة معدل النمو ومكافحة التضخم، وبالتالي توفير فرص عمل أكثر، ولذا يضغط الرجلان على البنكين لخفض الفائدة على الليرة والدولار، باعتبار أن هذه الخطوة هي البداية لتحريك الاقتصاد وتحسين مؤشراته وتقوية العملة المحلية ورفع معدلات النمو.
وترامب لا يختلف عن أردوغان في هذه النقطة، فمنذ وصوله الى البيت الأبيض وهو يجدد دعوته لمجلس الاحتياط لخفض الفائدة، لإعطاء المزيد من الدعم للاقتصاد وتوفير فرص عمل تساعده في الفوز بولاية ثانية.
كلام أردوغان وترامب الخاص بأهمية خفض الفائدة للاقتصاد صحيح نظرياً وبشكل مطلق، لأن أي خفض في تكلفة الأموال والقروض يشجع المستثمرين على الاقتراض، وبالتالي إقامة مشروعات جديدة توفر فرص عمل، بل وتحول الأموال المتراكمة في البنوك من مجرد ودائع داخل خزن حديدية إلى فرص استثمار وأموال يتم ضخها في مشروعات إنتاجية.
لكن البنوك المركزية تدير الاقتصاد بتوازن، فهي توازن مثلاً بين 3 سياسات ربما تكون متعارضة هي المالية والنقدية والاقتصادية، وتوازن بين مصالح الأضداد، المودعين والمقترضين، أصحاب المدخرات والمستثمرين، بين التضخم وسعر العملة، بين معدلات النمو والبطالة، بين استقرار العملة وأسعار السلع، ولذا تعطي معظم الدول للبنوك المركزية استقلالية كاملة في إدارة كل هذه المتناقضات.