ورغم محاولات القائمين على إعلام السيسي إجراء تغييرات في الآونة الأخيرة، إلا أنها لا تعكس أي رؤية أو رغبة حقيقية في تبديل حال الإعلام الذي فقد مصداقيته تمامًا لدى المشاهد المصري؛ بل باتت تقتصر في كل مرة على نقل المذيعين من قناة إلى أخرى، أو إضافة وجوه شابة لا تملك من الخبرة أو الحضور شيئًا، ووضع خريطة بائسة لبرامج "توك شو". فيبدأ أحمد موسى برنامجه في مطلع الفترة المسائية يليه المحامي خالد أبو بكر وبسمة وهبة على "أون تي في"، ثم عمرو خليل وريهام إبراهيم على "سي بي سي" وقريباً وائل الإبراشي على التليفزيون المصري. فتختلف الوجوه، لكنّ الخطاب نفسه يتنقّل بين الشاشات.
قضية ليبيا
وهذا ما كشفته جليًّا الأزمة الليبية وتطوراتها. حيث خرج الإعلامي أحمد موسى على المشاهدين غاضبًا وكأنه يدق نفير الحرب، ليقول في برنامجه "على مسؤوليتي" الذي يذاع على فضائية "صدى البلد": إن "احتلال أردوغان لليبيا يعني أن مئات الآلاف من اللاجئين الليبيين سيصلون إلى جنوب المتوسط، وإغراق دول أوروبا باللاجئين، وذلك في محاولة من تركيا لخلق أزمة للقارة الأوروبية، وأن الجيش المصري منع تدفق اللاجئين المصريين إلى أوروبا منذ عام 2016". وأضاف موسى أن "أردوغان يتحرك بكل قوة من أجل التدخل في ليبيا، وأنهى إجراءات اتفاقه مع حكومة الوفاق الإرهابية". وتابع أن "كل الإعلاميين جنود في معارك السلم والحرب، وعليهم القيام بأدوارهم"، مضيفاً "محدش يمسك العصا من المنتصف، والجميع لا بد أن يدعم مصر ويقف خلفها". وأشار إلى أن مصر "تحتاج إلى كل مواطن، لأن هناك بلطجة وسطْوا على أراضي الغير، وغزْوا كما حدث في شمال سوريا". وأكد أحمد موسى أنه إذا أرسل أردوغان قوات إلى ليبيا فسيكون تهديدا لأمن مصر، وتهديدا لأوروبا، لعدم موافقتهم على انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
وبعد هذه الموجة من التسخين فيما يتعلق بليبيا، جاءت موجة أخرى مختلفة تماماً. إذ إن كل وسائل الإعلام المصرية الآن تتحدث بنَفَس واحد وصوت واحد وهو صوت التهدئة وضرورة المصالحة. والسرّ وراء ذلك، كما علمت "العربي الجديد" من مصادر متعددة في وسائل إعلام مصرية، هو أن مصدر التعليمات الذي يغذي تلك القنوات والمواقع قرر أن يغيّر اتجاه بوصلته. وقالت المصادر لـ"العربي الجديد" إن مصدر المعلومات في ما يتعلق بالشأن الليبي ليس المخابرات العامة المصرية كما هو معتاد، فالتعليمات تأتي مباشرة من قبل جماعة خليفة حفتر قائد قوات "شرق ليبيا" والذي تدعمه القاهرة بشكل واضح في صراعه مع قوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً.
وقالت المصادر إن عارف النايض هو من يقوم بالتواصل مع وسائل الإعلام المصرية المختلفة ويمدها بالمواد التي يرغب في نشرها، وإن تلك المواد تُنشر كما هي من دون أي تدخّل من قبل الناشر، حتى تكاد تتطابق في جميع المواقع المصرية، وذلك يتم بناء على تعليمات من المخابرات العامة المصرية إلى تلك المؤسسات بأن تلتزم بما يرسله النايض. والنايض هو باحث ليبي يعمل مع خليفة حفتر وعمل في السابق سفيرًا لليبيا لدى الإمارات العربية المتحدة. وأضافت المصادر أن المواد الواردة أخيراً من النايض تتحدث عن ضرورة التهدئة والمصالحة بين الأطراف الليبية.
سد النهضة
أما بالنسبة لقضية سد النهضة الإثيوبي، وهي قضية قومية كبرى بالنسبة إلى مصر، فالوضع معكوس. فبعد أن سادت وسائل الإعلام المصرية نغمة سلام تتحدث عن حق إثيوبيا في التنمية وبناء السد بما لا يضر المصالح المصرية، انقلب الوضع الآن ليُصبح التصعيد ضد إثيوبيا هو السائد.
في يونيو/حزيران عام 2018، طلب السيسي من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، القَسَم على حماية مصالح مصر وعدم الإضرار بها، وتحديداً فيما يخص نهر النيل. وعقب إنهاء آبي أحمد كلمته في المؤتمر الصحافي الذي عُقد بين الزعيمين، صفّق السيسي لكلمته، ودعاه إلى ترديد قسم: "والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر"، وهو القسم الذي ردده آبي أحمد. بعدها، ساد وسائل الإعلام في مصر حديث عن العلاقات القوية بين البلدين (مصر وإثيوبيا) وضرورة تطويرها وتنميتها بما يحقق المصلحة لكلا البلدين. إلا أنه في الفترة الأخيرة صعّدت مصر اللهجة، تحديداً بعد إعلان فشل جولة جديدة من المباحثات بين البلدين بشأن سد النهضة، وهي المباحثات التي دعت إليها واشنطن بدعم من البنك الدولي للإنشاء والتعمير التابع للأمم المتحدة، بعد فشل الجولة الأولى من المباحثات وإحالة ملف السد إلى الرئيسين السيسي وآبي أحمد، واللذين التقيا على هامش القمة الروسية الأفريقية التي شهدتها العاصمة الروسية موسكو في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، إذ لم يسفر اللقاء عن أي شيء سوى إعادة الملف مرة أخرى إلى اللجان الفنية للدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا). وبناءً على ذلك، اقترحت واشنطن 4 اجتماعات فنية بين الدول الثلاث، يتم بعدها الاجتماع مرة أخرى في واشنطن، لبحث ما تم التوصل إليه بين تلك الدول. وبعد الاجتماع الأخير الذي عُقد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بدأت مصر مرحلة جديدة في التعامل مع إثيوبيا تعتمد على التصعيد، وهو ما امتد صداه إلى وسائل الإعلام المختلفة التي أخذت بدورها تردد ما جاء في البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية المصرية، وصعّدت فيه من لهجتها، ما يشير إلى أزمة حقيقية مقبلة بين الجانبين.
وتلقفت وسائل الإعلام في مصر بيان وزارة الخارجية وأخذت تصعّد من لهجتها ضد إثيوبيا بعد فترة طويلة من التهدئة. ومن جانبه، قال الإعلامي المحسوب على النظام في مصر، عمرو أديب: "المسألة ببساطة إن الدولة المصرية طلعت بيانا عنيفا جدا على لسان وزارة خارجيتها وقالت إن عندنا مشكلة مع إثيوبيا، مش عمرو إللي بيقول، وهذا الأمر هو أول الرقص حنجلة، وهذا الأمر كان واضحا منذ مدة، النهارده الإثيوبيين مكملين في هذا الأمر".
وأضاف: "اللي هاممني في الأخبار القادمة من إثيوبيا أن الإثيوبيين يتحدثون عن تمسك مصر بحقها، يعني الإثيوبيين بيقولوا إيه؟ بيقولوا المصريين متمسكين بحقهم أوي ومصرين، أنا أنبسط لما أعرف إن المفاوض المصري بتاعي متمسك في حقوقنا وبحاجتنا". وتابع قائلاً: "كان في حوار من يومين مع ترامب فلمّح فيه إنه هو كان وراء جائزة نوبل إللي أخذها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لأنه عمل اتفاق سلام مع إريتريا، وقال إن الرئيس ده عمل اتفاق سلام فأنا دعمته لأن يأخذ جائزة نوبل وأخذها بالفعل، هل أميركا والبنك الدولي حيقدر يحط ضغط ونوصل لقرار في واشنطن؟ أتمنى هذا، أما إذا لم يحدث هذا، السيارة ترجع إلى الخلف".
تبدّل مستمر في اللهجة
متصالح هو الإعلام المصري مع نفسه في مسألة تلقّي التعليمات والأوامر من السلطات وتغيير بوصلة الهجوم إلى الثناء بين عشية وضحاها، باختلاف المواقف السياسية الحاكمة. فهذا ما كشفت عنه التغطية الإعلامية المكثفة خلال الأسابيع القليلة الماضية بشأن الأزمة الليبية ودخول الجانب التركي على خط الصراع، ومن بعدها أزمة فشل مفاوضات سد النهضة الإثيوبي.
وعلى سبيل المثال، قال الإعلامي المصري الموالي للنظامين المصري والسعودي، عمرو أديب: إن "جيش مصر مستعدٌّ حال فُرِض عليه القتال، لا نستعرض فقط، الأيام الجاية أيام صعبة جدًّا مع الأتراك وفيه اختيارات صعبة كتيرة أمام الإدارة المصرية". ووصف أديب - خلال تقديمه حلقة الجمعة من برنامج "الحكاية"، المذاع عبر فضائية "mbc مصر" - اجتماع السيسي بكبار المسؤولين بـ"أشبه بمجلس حرب".
ومن الحديث عن الحروب واستعداداتها، تحوّل عمرو أديب إلى علم الفلك والأبراج؛ لاستشراف ما سيحلُّ بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال عام 2020؛ حيث استضاف في إحدى الحلقات بسنت يوسف، خبيرة الفلك والأبراج "التاروت"، تناولت "حظ أردوغان في 2020"، وفرح كثيرًا بجملتها "الراجل ده هيتبهدل".
ثم في حلقة أخرى، استضاف سمير فرج، المدير الأسبق لإدارة الشؤون المعنوية المصرية، وقال فيها: "عام 2022 هو عام نهاية أردوغان في حكم تركيا، وأن عبد الله غول انفصل عن حكم أردوغان، وكذلك داود أوغلو الذي انفصل عن أردوغان وشكَّل حزبًا معارضًا له".
ومن استشراف المستقبل، نزولًا إلى أرض الواقع مجددًا، خفتت لهجة أديب، وتحول للحديث عن الحل السلمي في ليبيا ودعم مصر له، وثمَّن مطالبات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بإنهاء الصراع في ليبيا وإحلال السلام، معتبرًا أن ما حدث هو انتصار واضح للإدارة المصرية في الملف الليبي، فيما يتعلق بالوصول إلى حل سياسي، بعيدًا عن التدخلات العسكرية.
الحديث عن الحرب، انتقل من ساحات الإعلام المرئي إلى فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث نشر عدد من الفنانين ولاعبي كرة القدم تدوينات وتغريدات متشابهة يدعمون فيها الجيش المصري في "الحرب ضد تركيا"، منهم الفنانون محمد هنيدي وكريم عبدالعزيز وصلاح عبدالله، فضلًا عن عدد من الرياضيين، الذين غرّدوا على وسوم "كلنا جيش مصر"، و"كلنا الجيش"، و"تحيا مصر".
فعلى الرغم من اعتراف النظامين المصري والإثيوبي بفشل مباحثات السد، إلا أن الإعلام المصري درأ المسؤولية عن القيادة السياسية المصرية، وحمّل مسؤولية الفشل لـ"جماعة الإخوان المسلمين"، وهو ما قاله الإعلامي المصري الموالي للنظام أحمد موسى، في برنامجه "على مسؤوليتي". وقال موسى: "الرئيس عبدالفتاح السيسى لم يكن مسؤولاً عن هذه الفوضى، والمسؤولون عنها هم من سعوا إلى الاستيلاء على الحكم بقوة السلاح دون مراعاة لمصلحة المواطنين. الإخوان ساعدوا إثيوبيا في بناء السد".
على الرغم من أن أحمد موسى في واحدة من حلقات برنامجه في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أكد مسؤولية الدولة تجاه سد النهضة، وقال: "إن الرئيس عبدالفتاح السيسي كان واضحًا في مسألة سد النهضة عندما قال: محدش هيمس مية مصر. وعلى جميع مؤسسات الدولة تحمل مسؤولياتها التاريخية تجاه ملف مياه النيل". إلا أن موسى، في الحلقة نفسها، طالب مجلس النواب المصري بـ"تحمل مسؤولياته التاريخية تجاه موضوع سد النهضة، وأن تتحرك لجان تقصي الحقائق بالبرلمان بخطوات جادة تجاه ذلك الملف؛ لأن مياه النيل خط أحمر".
موسى، في برنامجه، وتحديدًا في 24 يوليو/تموز 2016، قال: "سد النهضة بريء من نقص المياه في نهر النيل"، وأكد أن مصر تعاني نقصًا حادًّا في المياه بسبب نقص الأمطار على هضبة إثيوبيا، لافتًا إلى أن الأمر ليست له علاقة بسد النهضة.
واقترح موسى - في برنامجه - إعادة استخدام المياه المستخدمة في الأحواض والبانيو في غسل السيارات وغيرها من الأمور التي لا تتطلب مياهًا نقية، والاعتماد على محطات التحلية لتوفير المياه المستخدمة؛ لمواجهة الأزمة الحالية التي تعاني منها مصر بسبب نقص مياه الفيضان، مبرئًا سد النهضة الإثيوبي من التسبب في نقص المياه.