تزايد التهويل من حرب أميركية ما على إيران في الأسابيع الأخيرة. تهويل كلامي ترافق مع بعض الخطوات البعيدة عن أن تشي باحتمال اندلاع حرب حقاً، لكنها تندرج في خانة التصعيد السياسي الملون بملامح عسكرية. فقد أخلت الإدارة الأميركية موظفيها غير الأساسيين في السفارات والقنصليات الأميركية في العراق، وأعلنت عن إرسال صواريخ باتريوت للقواعد الأميركية العديدة في المنطقة "تحسباً" لحرب لا تبدو وشيكة، مع نفي الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبته بضرب إيران، في ظلّ عدم استبعاد ذلك أيضاً، حسب ما صرّح في مؤتمره الأخير من بريطانيا، والذي قال فيه إنّه "يُفضّل الحوار أولاً".
يُذكّر خطاب الحرب ضد إيران في الإعلام الأميركي السائد، سواء الليبرالي مثل شبكة "سي أن أن" أو صحيفة "نيويورك تايمز"، أو حتى اليميني المتطرف مثل "فوكس نيوز"، بالمسرحيات التي أعدت قبل الحرب على العراق واحتلاله عام 2003. تلك الحرب التي لم تحصل على تفويضٍ دولي من مجلس الأمن ولم تكن قانونية بموجب القانون الدولي على عكس ما ادعته أميركا وبريطانيا. بل إنّ الأمم المتحدة ذهبت أبعد من عدم التفويض بالقول صراحةً إنّ غزو العراق عام 2003، كان منافياً للقانون الدولي ولم يحصل على تفويض مجلس الأمن وإنه خالف الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة، كما صرّح وبشكل لا لبس فيه الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، كوفي أنان، خلال مقابلة له مع قناة "بي بي سي" البريطانية عام 2004. لكن حتى اليوم، لم يقدم أي من مجرمي الحرب وعرابيها إلى المحاكمة. وهذه من الانتقادات التي توجه إلى إدارة باراك أوباما الذي لم تشهد حقبته أي محاسبة للذين جرّوا البلاد إلى الحرب. وشهدت حقبة دونالد ترامب عودة بعض صقور الحرب في الإدارة الأميركية لجورج بوش الابن، كجون بولتون، مستشار الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب، وهو من قادة جوقة الحرب على إيران، ليلعبوا دورًا أساسياً في إدارة ترامب.
إعلامياً، هناك بالطبع استثناءات على مستوى الصحافيين أو البرامج المستقلة مثل "ديموكراسي ناو" (الديمقراطية الآن) أو الخارجين عن أسراب الإجماع الرسمي الذين يجدون فسحة في وسائل التواصل، أو المنافذ المستقلة أو اليسارية التي تعد على الأصابع. كتب الصحافي والمذيع مهدي حسن في موقع "ذا إنترسيبت" مقالةً تحدث فيها عن خطوات أربع يمكن للإعلام الأميركي اتخاذها لمنع الحرب مع إيران والتعلم من الأخطاء التي ارتكبت قبل الحرب على العراق عام 2003 والتي أدت إلى تدميره.
يشير المقال إلى أمثلة لبعض العناوين التي تم تداولها مؤخراً في صحف ومحطات أميركية رئيسية حول إيران كعنوان صحيفة نيويورك تايمز "البنتاغون يبني قوة ردع ضد أي هجوم إيراني محتمل". أما سي أن أن فاختارت عنوانا كـ"نشر الولايات المتحدة لعدد أكبر من صواريخ باتريوت في الشرق الأوسط تحسباً للتهديدات الإيرانية"، وصحيفة "واشنطن بوست" قالت: "تهديد إيراني يؤدي إلى إعلان البيت الأبيض نشر قوات، بحسب مسؤول أميركي". الواضح من كلّ هذه العناوين أنها تتبنى رواية المسؤولين الأميركيين في إدارة يمينية متطرفة وتعكس نظرتهم إلى الأمور من دون أن تسائلها. وهي تتخلى بذلك عن أي نظرة نقدية وتقترب من دور الإعلام الرسمي والبروباغاندا. وكما حدث عام 2003، يتم استخدام الترهيب والتخويف لإسكات الأصوات النقدية والتشكيك بمصداقيتها. وعلى الرغم من اقتباس بعض المقالات لمسؤولين أميركيين يرون أنّ هناك تهويلاً بخصوص التهديد الإيراني وأن العقوبات قامت بدورٍ فعّال، إلا أن هذه المصادر لا تعطى مساحة كافية وغالباً ما يدرج الاقتباس في مكان متأخر من المقال، مما يجعل فاعليته محدودة.
ينصح مهدي حسن بأربع خطوات يمكن للإعلام اتخاذها قد تساعد على تفادي الانزلاق في مأزق الترويج لمواقف المسؤولين الأميركيين المؤيدين للحرب. وبين تلك الخطوات، التوقف عن الاختزال. والمقصود عدم الاكتفاء بتمرير المعلومات من المسؤولين، بل تحليلها وتناولها بشكل نقدي. ثم يشير إلى ضرورة أن تكون معلومات الصحافيين صحيحة، مثل التذكير الدائم بتقارير وكالة الطاقة الذرية عن أن إيران لا تملك أسلحة نووية مثلاً مثلما كان العراق لا يمتلكها. كذلك يجدر التذكير الدائم بالانقلاب الذي قامت به وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) والبريطانية عام 1953 ضد حكومة محمد مصدق التي كانت منتخبة ديمقراطياً، ورفض إدارة بوش الاعتذار عن إسقاط البحرية الأميركية لطائرة مدنية إيرانية قتل فيها 290 شخصاً.
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد اعتذرت بعد سنة من غزو العراق عن عدم دقتها في تناول الموضوع وعلى الدور الذي لعبته في الترويج للحرب. ولعلّ واحداً من الأسئلة الرئيسية التي يجب أن يطرحها أي محرر وصحافي لا تتعلق فقط بصحة التسريب ومدى الوثوق بالمصدر بل يجب أن تطرح بعض الأسئلة الأساسية حول نوايا التسريب، ولماذا الآن، ومن المستفيد؟ لكن لهاث المنصات الإعلامية وراء التسريبات و"الخبر العاجل" يجعلها أحياناً ضحية نفسها وضحية "جشعها" بالركض الدائم حول الانفراد بالخبر والحصول على تصريحات من "مسؤولين كبار" بدل الوقوع على مسافة من مصادر القوة.