اغتيال خاشقجي: محطة واحدة في قطار الرعب

02 أكتوبر 2019
جرائم أخرى سبقت اغتيال خاشقجي (ذا أساهي شيمبون)
+ الخط -
عند البحث على أي محرك بحث عن التضييق السعودي على حرية الصحافة، تتكرر المقالات نفسها عن اغتيال جمال خاشقجي. تتراجع تحت مأساة خاشقجي عشرات الحكايات عن السجن والتعذيب والإقالة، لصحافيين ومدوّنين وناشطين دفعوا ثمن "غضب الحاكم". اليوم وبينما يستعيد العالم "جريمة القنصلية" بكل تفاصيلها المذهلة في عنفها ووحشيتها، وبينما يتردّد صدى صوت جمال خاشقجي وهو يقول "إنني أختنق" في إحدى غرف القنصلية السعودية في إسطنبول، نستعيد نحن بعض الحكايات، من التاريخ السعودي القديم والحديث، عن صحافيين دفعوا هم أيضاً الكثير أو القليل من حياتهم وحريتهم ثمناً لمقال أو موقف أو تغريدة.

تشحّ المصادر الموثوقة وغير الفضائحية التي توثّق تعامل السلطات السعودية مع الصحافة والصحافيين منذ الثلاثينيات وحتى مطلع التسعينيات. وللشحّ أسباب كثيرة، بينها إحكام القبضة طيلة هذه العقود على كل ما يدخل ويخرج من المملكة، لناحية المعلومات، إلى جانب حصول جرائم كثيرة، لم تخرج تفاصيلها إلى الضوء بسبب الخوف أو بسبب عدم وجود أدلة تكشف تورّط النظام فيها. لكن رغم هذا التعتيم، تسرّبت بعض القصص بتفاصيل مرعبة. جرائم تكشف أن قتل خاشقجي جزء من سياق سعودي طبيعي، وجزء من يوميات عادية في العلاقة بين الأسرة الحاكمة وبين الصحافة.

أشهر تلك القصص وأكثرها غموضاً تحمل اسم ناصر السعيد. صحافي وكاتب شجاع، هكذا تقول شهادات متفرقة لكل من عرفه. وتقول الروايات أيضاً إنه ألقى خطبة أمام ملك البلاد سعود بن عبد العزيز عند زيارته إلى مدينة حائل عام 1953، طالبه فيها بتحسين الظروف المعيشية لأهالي المدينة ولعمال شركة "أرامكو". في تلك الفترة كان السعيد وجهاً بارزاً للحركة العمالية داخل الشركة ومشجعاً ومحرضاً العمال على المطالبة بحقوقهم. عام 1956 وبعدما اشتدّ الخناق عليه هرب إلى مصر، وبدأ برنامجاً إذاعياً على "إذاعة صوت العرب" الذي كان بشكل أساسي يحرّض على آل سعود،  ثم انتقل إلى اليمن وقدّم أيضاً برنامجاً إذاعياً، مضمونه مشابه لمضمون برنامجه المصريّ. ومن اليمن توجّه إلى دمشق، فكان يتنقل بين العاصمة السورية والعاصمة اللبنانية، مواصلاً عمله إعلامياً وصحافيّاً، ينشر مقالات بشكل دوريّ تنتقد الأسرة السعودية الحاكمة، كما نشر كتاباً شهيراً هو "تاريخ آل سعود". وفي بيروت عام 1979 اختطف من شارع الحمرا. يومها وصلت إلى بيروت طائرة سعودية فيها نعش فارغ. بعدها اختفى ناصر السعيد. يقول مارك يونغ وهو مرافق سابق لآل سعود في كتاب بعنوان "كنت حارساً شخصياً لآل سعود" (2013، دار سماشووردز) إنه بعد الخطف، تم تعذيب السعيد، ووضعه في النعش، ثم رميه من الطائرة فوق البحر في لبنان. بينما تقول رواية أخرى إن السعيد وصل إلى المملكة على متن الطائرة إياها، وتعرّض لتعذيب مستمرّ حتى موته، لترمى جثّته من طائرة أخرى فوق الصحراء.
لم يعثر أحد على جثة ناصر السعيد، لم توجّه أصابع اتهامٍ إلى أحد. ناصر السعيد مفقود منذ عام 1979، ولا يزال بعد أربعين عاماً مفقوداً.

يتراوح العنف السعودي في التعامل مع الصحافيين والكتّاب بين مستوَيين: مستوى خاشقجي والسعيد، ومستوى آخر يوميّ ومتكرّر بشكل يجعله قاعدة عامة. أسلوب مخيف لكنّه يترك للصحافي مجالاً ليعيد تقديم طاعته للحاكم. يروي الصحافي والكاتب السعودي عبد الكريم الجهيمان في كتابه "مذكرات وذكريات من حياتي" (1995، دار الشبل)، أنه في عام 1955، عندما كان رئيساً لتحرير صحيفة "أخبار الظهران" (أول صحيفة تصدر في المنطقة الشرقية) نشر مقالاً لكاتب يدعى محمد بن عبد الله، يدعو فيه إلى تعليم الفتيات، أسوة بتعليم الصبيان. ألقت السلطات القبض عليه، معتبرة أنه يتحمّل بشكل شخصيّ مسؤولية المقال الذي يخالف تعليمات الحكومة، وسجن في غرفة معزولة مدة 21 يوماً. لا يذكر الجهيمان تفاصيل عن تعذيبه، باستثناء الجلد. تكرّرت الحادثة نفسها مع أكثر من صحافي في خمسينيات القرن الماضي. تلك الفترة التي بدأت فيها ثروات آل سعود تتراكم نتيجة النفط، مقابل ظهور بعض الأصوات القليلة المعارضة، التي شجعها ناصر السعيد على الخروج عن صمتها. صحيفة "الفجر الجديد"، أسسها عام 1958 يوسف الشيخ يعقوب، لم يكتب لها سوى طباعة ثلاثة أعداد، لتوقفها بعد ذلك السلطات السعودية بسبب نشر مقال يمدح الرئيس المصري جمال عبد الناصر. اعتقل الشيخ يعقوب واعتقل شقيقه إسحق. بعد تلك الفترة، أحكمت المملكة قبضتها على كل ما يصدر ويُقرأ على أراضيها.
سلاح الإقالة
عام 1983، نشر وزير الصحة السعودي غازي القصيبي في صحيفة "الجزيرة" بعنوان "الرسالة الأخيرة من المتنبي إلى سيف الدولة". سريعاً أعفي القصيبي من مهامه في الوزارة، وبدأ التضييق على رئيس التحرير خالد المالك ليقال بعد ثلاثة أشهر من منصبه، من دون توضيح الأسباب. تطول لائحة الإقالات فتشمل عشرات رؤساء التحرير والصحافيين الذين خسروا عملهم وهُددوا في سلامتهم بسبب نشرهم تحقيقات لم تعجب هذا الأمير أو ذاك، بينهم مثلاً رئيس تحرير صحيفة "عكاظ" محمد التونسي الذي أقيل بسبب نشر الصحيفة عام 2011 تحقيقا عن زراعة نبتة القات في جيزان، وإقبال السعوديين الكبير على استهلاك هذه النبتة. طبعاً كان لجمال خاشقجي حصته أيضاً من الإقالات المتكررة، نتيجة نشره مقالات اعتبرت تتجاوز صلاحياته.

الجيل الجديد
مع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 عرفت الصحافة السعودية انتعاشة ملفتة، وبدأت بعض المقالات المنتقدة للتطرف الإسلامي تظهر هنا وهناك وإن على استحياء. عام 2003، ومع أول تفجير في الرياض تبناه تنظيم القاعدة، علت النبرة أكثر، وبدأت تظهر انتقادات للتعليم الديني المتشدد في المملكة. أول من دفع الثمن وقتها كان جمال خاشقجي، الذي كان يشغل منصب رئيس تحرير صحيفة "الوطن" فأقيل من منصبه، بسبب نشر أكثر من مقالة ورسم كاريكاتوريّ ينتقد المؤسسة الدينية في المملكة. لكن الإقالة بدت عقاباً مخففاً أمام الحكم الذي أصدرته في تلك السنة المحكمة الشرعية ضد الصحافي منصور نُجيدان (صحيفة "الرياض") بالجلد 75 جلدة لنشره مقالات تنتقد الوهابية.
استمرّ الأخذ والردّ بين السلطة والصحافيين بهذا الشكل حتى عام 2011. مع اندلاع الربيع العربي، وانفتاح حسابات ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي على بعضها في مختلف أنحاء العالم، بدأت بعض الأصوات السعودية والعربية والغربية تنتقد الوضع داخل المملكة، عند كل اعتقال. هكذا اختارت السلطات طريق الإخفاء أو الاعتقال السري. لكن حفظ الأسرار يكاد يكون مستحيلاً في سنوات طفرة السوشال ميديا. وخير دليل على ذلك هو اختفاء 15 مدوناً وصحافياً عام 2018 في المملكة، من دون أية مذكرة توقيف أو أي إعلان عن الاعتقال، ليتبينّ لاحقاً أنهم مسجونون وقد صدرت على قسم منهم سريعاً أحكام بالسجن والغرامة، مثل
صالح الشحي...
وفي مارس/آذار 2018، اعتقل الصحافي تركي الجاسر، بشكل سري أيضاً. اختفى. قيل إنه يدير حساباً يدعى "كشكول" وإن موظفاً في مقر "تويتر" في دبي كشف هويته للسلطات السعودية. لم يسمع أحد عن عملية الاعتقال ولا التهم الموجهة للجاسر. كل ما تسرّب في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن الصحافي السعودي مات تحت التعذيب. مجدداً لم يرَ أحد جثته. تركي الجاسر اختفى في مارس 2018، ولا يزال مختفياً.
المساهمون