روي ليختنشتاين: الفن مستهجناً فكرة التصنيع

21 ديسمبر 2020
ليختنشتاين في الاستديو الفني الخاص به في نيويورك عام 1986 (جاك ميتشيل/ Getty)
+ الخط -

لم ينافس أحد من فناني "البوب أرت" الأميركيين آندي وارهول، في شهرته وتأثيره، مثلما فعل مواطنه روي ليختنشتاين، المولود قبل وارهول بخمس سنوات، وتحديداً في 27 أكتوبر/تشرين الأول 1923. ففي الوقت الذي حظي فيه تيار "البوب أرت"، في جانبه التشكيلي، بالعديد من الأسماء الكبيرة الأخرى، مثل غاسبر جونز وكلايس أولدنبورغ وجيمس روزنكويست وكيث هارينغ، كانت أعمال وارهول وليختنشتاين الأكثر تغلغلاً في الثقافة الشعبية الأميركية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ربما بفضل ولادة نظام اقتصادي مبني على تأصيل المجتمع الاستهلاكي، إلى جانب ظهور ماكينات النسخ والطباعة وانتشار كاميرات التصوير الفوتوغرافي. تلك الأدوات سهّلت أيضاً انتشار أفلام الفيديو والقصص المصورة وصناعة الإعلان الصحافي والتلفزيوني، وكلها متغيرات أدت إلى ولادة نوع مختلف في الفن والموسيقى، وهو ما عبّر عنه فنانو البوب أرت في تلك الحقبة العاصفة بسياساتها وحروبها وآدابها. وفي محاولة منه لاكتشاف أثر روي ليختنشتاين في حركة البوب أرت العالمية، أعلن متحف BAM للفنون الجميلة في مدينة بيرغن البلجيكية، أخيرًا، عن افتتاح معرضه الاستعادي الضخم تحت عنوان: "روي ليختنشتاين.. رؤى متعددة"، والذي يأتي تأكيداً لتخصّص المتحف البلجيكي في رصد رموز الحركات التشكيلية التي ظهرت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خاصة تلك التي ولدت عند تقاطع الحداثة وما بعد الحداثة، والثقافة والثقافة المضادة، لذا يأتي المعرض الجديد لليختنشتاين استكمالاً لعدد من المعارض الاستعادية الضخمة التي استضافها المتحف نفسه، لكل من كيث هارينغ وآندي وارهول ونيكي دي سان فال وآخرين.


الجانب الحرفي
يركز المعرض، الذي يستمر حتى إبريل/نيسان من العام المقبل، على الجانب الحرفي الدقيق في عمل ليختنشتاين التشكيلي، متضمناً مائة عمل من مختلف الخامات والأحجام والتقنيات، تم تجميعها من 15 مقرضاً أغلبهم من الولايات المتحدة. وتبدأ جولة المعرض بالأعمال الأولى التي نفذها ليختنشتاين في مجال المناظر الطبيعية، وفيها نرى بدايات معالجته للموضوعات الأميركية التقليدية، مثل رعاة البقر والهنود الحمر، مزاوجاً فيها بين تقنيات مختلفة في عمل واحد. في بعض هذه الأعمال استخدم ليختنشتاين صفائح من ورق لامع يسمى Rowlux، واعتبر حينها أن هذه النوعية المصقولة من الورق: "مثالية لتصوير الهواء والماء، لأن خامة الورق تعطي انطباعاً بالتغير والحركة الدائمتين". ربما تكون هذه النقطة تحديداً مدخلنا لقراءة أعمال ليختنشتاين بوجه عام، خاصة أن توظيف الخامات في عمله الفني كان أحد هواجسه الدائمة، فمثلاً سنلحظ في أغلب أعماله حول الطبيعة الصامتة تأثره بأسلوب الرسم الأوروبي، الذي استوحاه من ولعه بأعمال بيكاسو وبول كلي وفان كوخ ومونيه وسلفادور دالي. حتى صرخة مونش، استحوذ عليها ليختنشتاين في أحد أعماله، مزيلاً عنها الغموض الذي اشتهرت به. اكتشف ليختنشتاين عوالم هؤلاء الفنانين الكبار أثناء فترة وجوده في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث مكنته مهمته كرسام للخرائط في الجيش الأميركي آنذاك من التردد الدائم على المتاحف، ولم تكن مداعباته الفنية لنماذج الفن الأوروبي هذه إجلالاً، بل كانت في أغلب الحالات اقتباسات ساخرة، يتناولها عبر منظوره الحداثي الخاص، محوّلاً خصائص أساليب هذه الأسماء الكبيرة في عالم الفن إلى حيل وعلامات يمكن التعرف عليها بسهولة.

نجوم وفن
التحديثات الحية

 
أميركا ميكي ماوس
مع بداية عقد الستينيات، بدأ ليختنشتاين تنفيذ أولى أفكاره "المجنونة"، حين أعاد رسم صورة مستلة من قصة مصورة لشخصيتي ميكي ماوس ودونالد داك، وانتشر العمل انتشاراً لم يكن ليختنشتاين نفسه يتوقعه، ربما بتأثير من عالم "ديزني" الذي رسخته السينما في الأذهان آنذاك. وكأن ليختنشتاين أراد أن يضع بصمته في عالم "البوب أرت" فقرر تلخيص الشخصية الأميركية بكاملها في هذين النموذجين، خطوة منطقية ستكشف لاحقاً عن نوعية الفنان الذي سيكتمل فيما بعد، ويصنع من أعماله الفنية انعكاساً للتاريخ الأميركي المعاصر وعلاقته بالثقافة البصرية الشعبية. فبدءاً من هذه اللوحة لميكي ماوس، سيسعى ليختنشتاين، وبالتدريج، إلى تغييب أي أثر للمسته البشرية في أعماله اللاحقة، وسوف يرسم مثل المطبعة، على غرار مجايله وارهول، راغباً في صنع عمل يبدو أنه من صنع آلة. في ذلك الوقت، برر ليختنشتاين أسلوبه هذا بقوله: "أريد إخفاء أي أثر لتدخّل يدي فيما أرسم". واستطاع تحقيق هذا الإحساس الآلي على أعماله، باعتماده طريقة نقاط Ben Day المميزة، تلك النقاط المتجاورة التي كنّا نراها بارزة في الصور الصحافية قديماً.

كان نجاح عمله عن ميكي ماوس، مؤشراً كافياً لليختنشتاين كي يستمر في تقديم أعمال معتمدة على رسومات القصص المصورة، وبدأ في هذه الفترة في إنشاء دفاتر ملاحظات ضخمة في مرسمه الخاص، يحتفظ فيها بكم هائل من الصور والملصقات والرسوم الهزلية وقصاصات المطبوعات الإعلانية والمجلات، "لترجمتها" لاحقاً إلى لغته المرئية على القماش، واختار من هذه الصور والمصادر كل ما هو ثنائي الأبعاد، وهو ما برره لاحقاً بقوله: "جميع موضوعاتي ثنائية الأبعاد أو مشتقة من مصادر ثنائية الأبعاد، فعندما يقترحون عليّ رسم غرفة، فسوف أجلبها من صورة غرفة وجدتها في إعلانات دليل الهاتف، ذلك لأنني أردت دائماً رؤية الخط الفاصل بين ما هو فن وما ليس فناً".
 


تصنيع الفن
الطريف أن لوحة Look Mickey التي نفذها ليختنشتاين عام 1961، والتي كانت نواة أسلوبه الفني اللاحق، جاءت نتيجة تحد من أحد أبنائه الصغار، حين أشار إلى كتاب فكاهي يضم قصصاً مصورة لميكي ماوس وقال لأبيه: "أراهن أنك لا تستطيع الرسم بهذه الجودة"، ويبدو أن الطفل الصغير داخل ليختنشتاين لم يتحمل هذه الإهانة، فأنتج في العام ذاته ستة أعمال بشخصيات أخرى، مستلة من أغلفة العلكة وكتب القصص المصورة والرسوم المتحركة.

لم يصبح روي ليختنشتاين مشهوراً حتى بلغ الأربعين من عمره، عندما قدّم أوائل ستينيات القرن الماضي أعماله التي قيل عنها إنها "ابتذال لفكرة الفن الراقي"، عندها وجد ليختنشتاين أن اللوحات الإعلانية والرسوم الهزلية والقصص المصورة المطبوعة بثمن بخس مثيرة للاهتمام. وتساءل: "لماذا يستهجن الفن فكرة التصنيع"؟ لذلك يرى كثير من مؤرخي الفن أن ليختنشتاين لم يقترب من الواقع الأميركي بشكل مباشر، بقدر ما اجتازه على الدوام عبر خطوات وسيطة، فقام بعمل نسخ من النسخة الأصلية، خاصة حين اختار أبطال وبطلات أعماله من القصص المصورة وأعمال الكارتون وروايات الحرب الرديئة وقصص الحب الرومانسية، بل لم يأنف من البحث عن هذه الشخصيات وجلبها من إعلانات دليل الهاتف للمنتجات التجارية. بهذه "التقليعة" صنع ليختنشتاين بصمته في عالم البوب أرت، حين قام بتفكيك هذه الصور وقصها من سياقها القصصي، ليقدمها لنا وجوهاً معزولة ومنفردة، وإن ظلت تحمل الكثير من المشاعر المتضاربة، نراها واضحة في نظرة الرعب التي ترميها الأعين في الفراغ.


آلة الحرب
هنا نصل إلى لحظة ولادة أشهر أعمال ليختنشتاين الفنية، ألا وهي الشخصيات النسائية التي رصدها في لحظات ضياعها وسلبيتها، إلى جوار نظرائهنّ "الذكور"، المرتبطين بعالم الجريمة والجاسوسية والحروب، فنرى البنادق الآلية والطيارين المقاتلين وأصوات الانفجارات. ولعل أشهر أعمال ليختنشتاين في هذه الفئة لوحته العروفة باسم Whaam!، والتي رسمها عام 1963 معتمداً فيها على رسم مستل من قصة مصورة عن رجال الحرب الأميركيين صدرت في 1962 للرسام الأميركي إيرف نوفيك. تصور اللوحة طائرة مقاتلة تطلق صاروخاً على طائرة معادية، فنرى الانفجار باللونين الأحمر والأصفر، إضافة إلى عبارة تقول: "..Whaam! لقد ضغطت على زر الإطلاق، ورأيت الصواريخ تنفجر أمامي في السماء"، كانت هذه اللوحة واحدة من مجموعة أعمال ذات طابع حربي نفذها ليختنشتاين في الفترة من 1962 إلى 1964، وسط ضجيج الحرب الفيتنامية التي كبدت أميركا خسائر فادحة.

بهذه الطريقة في رصد "كليشيهات" المجتمع الأميركي الاستهلاكي المنقسم على ذاته آنذاك، أدان ليختنشتاين عنف الرجل وسلبية المرأة. بل يمكننا اعتبار تناول "الكليشيهات" مفهوماً مركزياً في عمل ليختنشتاين الفني بشكل عام، وهو ما جعل أعماله تصطدم أحياناً بالإرادة السياسية للدولة الأميركية، فأعماله التي رصد فيها أصوات الانفجارات العنيفة وقصف المدافع الرشاشة والطائرات المقاتلة أواخر ستينيات القرن الماضي، تركت الانطباع لدى مشاهديها بأن الآلة الحربية الأميركية تعمل من تلقاء نفسها، وعندما بدأت الصحافة تقول إن ليختنشتاين يعارض التدخل الأميركي في فيتنام، سارع هو ليعلن على الفور أنه: "فنان غير سياسي، وأرسم ما هو مألوف للناس على شاشات التلفزيون كل يوم"، هذا الدفاع أو التوضيح السريع من ليختنشتاين للصحافة الأميركية في ذلك الوقت، لم يمنعه - في مناسبات أخرى - من الاعتراف بوحشية السياسة الأميركية في حرب فيتنام.
 
ابتذال العاطفة
في قاعة أخرى من المعرض، نرى تطور رؤية ليختنشتاين للمرأة الأميركية في ستينيات القرن الماضي، ليبدأ الأمر من كليشيهات ربة المنزل السعيدة المجلوبة من القصص المصورة: نراها شابة شقراء جذابة لكنها ضعيفة أمام مشاعرها القوية، بالضبط كما ظهرت في معالجته الرومانسية Crying girl عام 1963 أو في لوحته الشهيرة الأخرى  The Melody Haunts My Reverie  عام 1965، وأغلى قطعة في هذه المجموعة كانت لوحته Masterpiece، التي بيعت بمبلغ 165 مليون دولار في يناير 2017. في هذه الفترة من عقد الستينيات ارتبطت أعمال ليختنشتاين برسوم القصص المصورة، التي تعرض قصصاً حربية أو رومانسية، وهو ما يوضحه ليختنشتاين في أحد حواراته الصحافية آنذاك قائلاً: "في ذلك الوقت كنت مهتماً بأي شيء يمكنني استخدامه كموضوع قوي عاطفياً، وعادةً ما تكون قصص الحب أو الحرب مشحونة بالعاطفة التي يمكن أن تبدو مبتذلة في أحيان كثيرة".

المساهمون