Thiiird لكريم قاسم: اهتمام بالصورة التي تعكس قهراً لبنانياً

21 ابريل 2023
"الثالث": بالأسود والأبيض فالقهر اللبناني كثير (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يوسّع اللبناني كريم قاسم (1990)، في "الثالث" (ترجمة تقريبية للعنوان الإنكليزي Thiiird)، فيلمه الجديد (2023)، مَديات بحثه عن مدينة بيروت في لحظتها الراهنة، بالذهاب إلى أطرافها، ليوثّق من هناك، أو ليعيد تشكيل جانبٍ من واقعها، بأسلوبِ سردٍ سينمائي هجين (هايبرد)، يتداخل فيه التجسيد (التمثيل) بالواقعي (التسجيل)، في حدود ضيقة، يصعب معها توصيفه بفيلم "دوكو دراما".

تجريب النوع، والتحرّر من اشتراطاته التقليدية، خياران حرّان عنده، ما دام أنّهما لا يُقلّلان من شدّة اهتمامه بالصورة، الناقلة مشهد الخراب الحاصل في مدينته، والقادرة على تجسيد وجع اللبناني وقهره، بحساسية لافتة في رهافتها. لا بأس من ترك بعض تفاصيلها الصغيرة لتأويل المُشاهِد.

في اشتغاله، يعطي قاسم لبقية الوسائل التعبيرية المساعدة (الحوار خاصة) مساحات أقلّ، ويداخل بعضها ببعض غالباً، توافقاً مع التداخل المعقّد، الحاصل في الواقع اللبناني.

يظهر التهجين الأسلوبي عنده، بوضوح، في ثلاثية بيروت: "Only The Winds (فقط الرياح)" عام 2020، و"Octopus (أخطبوط)" عام 2021، وآخرها "الثالث". أهذه ثلاثية، حقّاً، طالما أنّها معنيّة بالتوثيق، فما مبرّر وجود شخصية (فؤاد محولي) فيها كلّها، وفي مستويات وجود متدرّجة، من الأقل إلى الأكثر عمقاً، كما في مشهد منقول من ورشته المنزوية في وادٍ شبه مهجور، يحيط به الصمت، وينهمر المطر فوقه من دون انقطاع؟

ورشة فؤاد لتصليح السيارات، في أطراف بيروت، تغدو، زمن الخراب، ملتقى للبوح أكثر منها مكاناً للعمل. يصغي، الوقت كلّه، إلى زبائن يشكون همومهم من أوضاع معيشية وسياسية بائسة. يستقبل شكواهم بصمت، ويدعوهم، بانتظار تصليح سياراتهم، إلى شرب فنجان قهوة. الزمن في المكان شبه المهجور، المنقول بالأسود والأبيض، كناية عن سوداوية تغلّفه، يكاد يكون ساكناً، لا يتحرّك. يبدو القادمون إليه كأنّهم طارئون على المكان، ومع ذلك، لا يريدون مبارحته. الوجود الحقيقي للورشة قابِل لأنْ يكون مشهداً سينمائياً ممسرحاً، يُعرض، فوق أرضيته المتسخة والموحلة، لبنان في لحظة انهياره.

ينقل بضع مشاهد من الحياة اليومية اللبنانية، أبطالها زبائن ينتظرون تصليح سياراتهم: شابان يتدرّبان في السيارة على مشهد مسرحي، ويختلفان على كلمة "يرجع" أم "يعود"، وأيّهما أدقّ تعبيراً عن حقّ اللبناني في العودة إلى وطنه بعد غياب. امرأة تحكي عبر الهاتف عمّا فعله بها أصحاب المصارف، حين سرقوا مصاريف تعليم أولادها. لن تتردّد، وهي تبكي، عن استخدام أقسى الكلمات في التعبير عن غضبها من لصوص خرّبوا مستقبل أولادها، وجعلوها من دون حيلة تواجه بها عجزها.

المشهد الخارجي للورشة يوحي بعزلة صاحبها عن العالم. يبيت ويمضي يومه فيها. مساعده محمد يواجه عجزه بالخمرة، التي يفرط في شربها، وبقية عابرة تأتي إلى المكان وتتصرّف كما لو أنّها في حضرة مُعالج نفسي، فتح عيادته للاستماع إلى دواخلهم الملتاعة، بينما يكسر فؤاد عزلته الخاصة بإبقائهم إلى جواره، يستمع إليهم، ولا يعلّق إلا نادراً على أحاديثهم. لكنّه، في غفلة منهم، يسرح في خياله وأحلام يقظته، حاملاً معه دائماً باباً بيده، سائراً به نحو عتمة مكان مجهول، يضيء أرضيته بمصباح معلّق فوق رأسه. المشهد نفسه تكرّر في "أخطبوط"، لكنّه لم يصل إلى نهايته.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

لا يكتفي صانع "الثالث" بنقل آليّ للمكان، ولا بتوظيف الجوّ المحيط به لعرض ما بلغه اللبناني من بؤسٍ، بل يُضفي إليهما بُعداً غرائبياً، ويُضيف إليه أحياناً جرعةً من سخرية مُرة (في مشهدٍ سريع، يظهر رجلٌ جالساً على كرسيّ وضعه فوق سقف سيارة مُعطّلة، بانتظار مجيء الميكانيكي لتصليحها). سخرية مجبولة بقهر وحزن، يتسرّبان إلى المُشاهِد، ويدفعانه إلى متابعة ما يجري في الوادي، الذي قلّما يخرج منه الواصلون إليه. يتكرّر طلب فؤاد من أصدقائه استعارة سيارة أحدهم لنهار واحد، ليقضي خارج الورشة حاجةً مُلحّة لديه. في كل مرة يعتذرون منه، وفي كل مرة يتقبّل اعتذارهم بصمت، مقرون بيأس. لم يتذمّر كعادته. يقبل بالواقع كما هو، كما تقبّله عندما تسبّب عيار ناري طائش في إشعال النار في ورشته، وكاد يصيب رأسه. تعامل مع الأمر بلا مبالاة، كأنّه يخصّ شخصاً آخر غيره. جمّد البؤس مشاعر اللبناني، وجعله يتعايش مع واقعه، كما لو أنه الخيار الوحيد والأخير المُتاح أمامه.

مقارنة مع "أخطبوط"، يمنح سيناريو "ثالث" (كتابة كريم قاسم وناديا حسن) مساحة أكبر للحوار، الغائب عن الأول. يظلّ حضور الكاميرا (طلال خوري) قوياً. الفرق بين الكاميرتين كامن في سرعة الإيقاع وحدّة التعبير. في "أخطبوط"، تلعب الكاميرا (كريم قاسم) دور المُستنطق لقهر وغضب اجتاحا دواخل اللبنانيين، لحظة انفجار مرفأ بيروت.

في "الثالث"، تلاحق الكاميرا الظاهرَ أكثر. ولأنّ فيه مساحة كافية للدرامي، يُدخل صانعه على مشاهده شخصيات إضافية، تُغني متن المشهد المنقول باشتغال سينمائي رائع، وتتيح له الفرصة ليجسّد بها رؤيته الواقع، الذي يفضّل القبول به كما هو.

دعوة الصديق القديم لفؤاد إلى التصالح مع عائلته وذاته تمهّد لها. يستجيب صاحب الورشة لطلبه، ويذهب معه في رحلة شبه وداعية، باتجاه مدينة بيروت. يكلّفه، في الطريق إليها، بنصب بابين في العراء، منفتحين على المجهول، ويعطيه باباً ثالثاً، يلج بنفسه منه إلى المستقبل، الذي يراه كريم قاسم أحسن وأجمل من الحاضر. يدخل فؤاد، ومعه باب الفرج، إلى دهليز مظلم. خلال سيره فيه، تتكشّف الألوان الطبيعية على الشاشة، ويغيب الأسود والأبيض منها. يخرج من عتمة عميقة، مفضيّة إلى بحر واسع، زرقته باهرة.

بخاتمة متفائلة، ينهي كريم قاسم ثلاثيته الطويلة، باشتغال سينمائي لم يألفه السينمائيون العرب كثيراً، ما يُعزّز قناعة بقدرة السينمائيين اللبنانيين على خلق سينما وثائقية مختلفة في أساليب سردها، وأشكال معالجاتها للحدث الآني خاصة.

المساهمون