قبل شهر، أتمّت شبكة أمازون برايم إتاحة حلقات إنتاجها الأصيل The Peripheral، مستكملةً مسارها الدؤوب في الإنتاجات الضخمة، بحثاً عن ظاهرة تلفزية تسود المشهد العام، من دون أن تكون الشبكة الوحيدة التي تخيب في هذا المسعى. يتألف العمل من ثماني حلقاتٍ، وينتمي إلى الخيال العلمي في المستقبل القريب، تتقاطع فيه سردياتٌ متعددة بين السفر عبر الزمن، والأكوان الموازية، وطرائق اللعب في الواقع الافتراضي.
أتت بداية العرض مُعقبةً مسلسل The Rings of Power الملياريّ الذي يتفق معظم المنقسمين بشأنه أنه خيّب طموحات الشبكة، بعيداً عن منافسة House of the Dragon مسلسل HBO المشتق من سلسلة Game of Thrones الأوفر حظاً في الجماهيرية والنجاح.
حكاية في مُستقبلَين
تنقسم الحكاية بين عالمين: مستقبلٌ سوداويٌّ في لندن عام 2199، ومستقبلٌ قريب في ريف الولايات المتحدة الأميركية النائي عام 2030. تتكون الصلة بين هذين العالمين عندما تؤدّي فلين مهمة اختبار لعبةٍ قيد التصميم، بدلاً من شقيقها، في ما يبدو اقتصاداً مربحاً في المستقبل وغير شرعيٍّ بالضرورة. تلج فلين إلى لندن المستقبلية عبر نظارة الواقع الافتراضي. ومن دون الإسهاب في تعقيدات الحبكة، تتحول وأسرتها هدفاً إلى تهديدات مركز الأبحاث المهيمن في مستقبل لندن، ما يقوض سلامة الخط الزمني برمّته وتسارعه نحو نهاية العالم. قدّم العمل إجاباته كلّما استطاع، وشرح قواعد العوالم باستعارة العناصر التوجيهية للألعاب الرقمية، مستبدلاً الوضوح بالغموض الذي كثيراً ما غلّف مسلسلات هذا النوع، وترك لدى المشاهدين الحيرة عوضاً عن إثارة الفضول. هذا أفضى إلى بناء نسختين من المستقبل واضحي التباين على مستوى الصورة والخِطاب، ليتمكن من تحريك شخوصه -البشرية والآلية- كأقطابٍ للصراع الدرامي. ورغم هذا بقيت الروابط الأسرية ورفقة السلاح وحتى التيارات الفكرية أقلّ عناصره جاذبية، في أحداثٍ رتيبةٍ مقروءة وأداءاتٍ باهتة. لا بدّ من الإقرار بصعوبة نسج شخصيات وقصصٍ مبتكرة، فالمستقبل دائماً قاتم، وماذا يبقى لعرضه سوى البطولة والرعاية والفداء، مقابل الجشع وحب السلطة والارتقاء. عدا أن نظرتنا لما يحمله المستقبل المتخيّل حبيسة الحاضر، وهذا ما يدخل توريات الحوار وما يعكسه من قضايا معاصرة إلى الرمزيات بدلاً من بناء الشخصيات وتناقضاتها.
صنّاع العمل
قبل عقدٍ من الزمن، كان لارتباط اسم جوناثان نولان وشريكته ليزا جوي بأي منتجٍ فنّيٍّ ضمانةً لنجاحه ووعداً للجمهور بتجربةٍ ترفيهيةٍ ترضي ذكاءه وتتحدّى إدراكه، لكن صاحب نصّ Interstellar ومبتكرَي Westworld الملغى حديثاً مُنيا بفشلٍ جماهيريّ، وتجاهلٍ من منصّات التتويج. بُني المسلسل على روايةٍ تحمل ذات الاسم لمؤلّفها ويليام غيبسون، صدر منها جزآن بانتظار الكتاب الختامي. وقد سبق هذا الاقتباس محاولات عدّة لنقل أدب غيبسون إلى الوسيط المرئي، من دون أن ترى النور، لاستعصاء نقل بيئة الأحداث في رواياته بشكلٍ بصريّ، ولا سيما أنها تدور ضمن ما أسماه الفضاء الرقمي Cyber-space. أسند ثنائي الإنتاج (جوي ونولان) إلى سكوت سميث مهمة إدارة المسلسل، وقد سبق له أن حوّل روايته A Simple Plan إلى نصٍّ سينمائيّ ناجح. تفترق الرواية عن أحداث المسلسل في كثيرٍ من التفاصيل، والعامل الأساسي أن المسلسل يروي الأحداث من وجهة نظر فلين، دوناً عن ويلفرد، رفيقها في العالم المستقبلي كما في الرواية، وهذا ما سيتغير في موسمه القادم.
الألعاب ومستقبل الترفيه
تتجلّى عدّة صورٍ للتقارب بين الإنتاج الفني من سينما وتلفزيون وبثٍّ رقمي مع عالم الألعاب، فلدينا جهاتٌ إنتاجية كُبرى تسهم في المجالين، واقتباساتٌ متبادلة بأشكالٍ عدّة، ومنصّات مشاهدة تحتوي قسماً للألعاب مثل "نتفليكس"، وإن كانت المروية القصصية في الألعاب قد تطوّرت بشكلٍ كبير خلال الأعوام الفائتة، لا تبدو خطوات التفاعلية بذات الثبات ضمن عالم القصّ التلفزي. بعد تجارب The Witcher وHalo المقتبسين عن ألعابٍ شهيرة، ها قد صدر The Last of Us، علّه يكون أكثر نجاحاً من سابقيه المتواضعين الصادرين عن "نتفليكس" و"هولو" على الترتيب. يعد المسلسل الجديد بمستوىً عالٍ ومقاربة جديدة لفكرة الموت، وهي إحدى المعضلات الأساسية في اقتباس الألعاب أو تناول عوالمها ضمن بناءٍ قصصي، فالموت ضمن اللعبة مجرّد إيذان للعودة من جديد. بينما دلّلت التجارب السابقة، وتحديداً في Westworld، أن القتل المتكرر للشخصيات أو رجوعهم اللانهائي من الموت، يوهن الحدث ويقلل من شأنه، ويترك خطوط الشخصيات ومصائرها بلا عنوان. عامل آخر للتناقض وهو العالم الواقعي، فضمن The Peripheral، يصبح العالم مهدداً بالمحو، لكنّ معرفتنا بهذا العالم أنه وقتيّ، لا تختلف عن عالم المستقبل الآخر، وليس من رابطةٍ للمشاهد كي يعامله سوى أنّه افتراض، ذلك أن هذا التصنيف الخيالي لا يحفل بالعالم الواقعي، ويُترك الجمهور من دون مرجعيّة بين عوالم مجرّدة قابلة للاستبدال وخالية إلّا من أبطال الحكاية وأشرارها. من الجليّ أن تقاطع اللعب مع المشاهدة يمتلك في مقوماته كثيراً من مواصفات النجاح، ولا شكّ أن مزيداً من الأعمال ستظهر في القريب بين تخبطاتٍ وطروحات ثورية، وإلى أن يتطور نموذج واضح لمسار المشاهدة/اللعب يوازن بين الاستكشاف والبناء الدرامي والذروة ستبقى هذه الأعمال محتومة بالانقضاء وإعادة الكرّة قبل الوصول لنقطة الإرضاء.