Munch لـ آيس سبايس: أغنية في أسرع وقت ممكن

08 يناير 2023
رُفعت الأغنية على تيك توك (سارة ستير / Getty)
+ الخط -

كشارة بداية موسيقية وفاتحة للحديث، اختار الناقد الموسيقي جون سارامونيكا، لحلقة صدرت أخيراً من سلسلة بودكاست يُديرها لصالح صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، والتي خصّها بأفضل أغاني العام الفائت، أغنية Munch لنجمة الراب الصاعدة، إيزيس غاستون (Isis Gaston)، المعروفة فنياً بـ Ice Spice. حظيت الأغنية بإجماع نادر بين ضيوف الحلقة، لفت إليه سارامونيكا، على أنها الأكثر إثارة لكل من الاهتمام والإعجاب من بين الإنتاجات الموسيقية التي طُرِحت للنقاش على رأس السنة.

غاستون (23 عاماً)، هي ابنة حي ذا برونكس النيويوركي الشهير، نواة الطاقة الخلاقة لأكثر الألوان التعبيرية أصالة، التي أنتجها الأميركيون السود منذ بداية الثمانينيات، ألا وهو الراب أو الهيب هوب. والدها ناظم راب على مستوى محلي. أما والدتها، كما أسرّت إيزيس في حوار أجرته مع مجلة رولينغ ستون، فكانت دائماً تقول: "أشعر دوماً بأنّي وُلدت بلوثة موسيقية".

البيّن أن لتلك الحاضنة الموسيقية الطبيعية، المتمثلة في كلٍّ من الحيّ والعائلة، الأثر في جعل المقدرة الإبداعية لدى الشابة الصغيرة على درجة من السيولة والكثافة، تؤهلها لأن تُحدَث خرقاً، دفقاً شكليّاً ودفعاً خارج المألوف، ومن دون سبق إصرارٍ وتفكُّر.

عن السيرورة التي أسفرت عن أغنية Munch، تقول آيس سبايس: "كنت أُسجّل في غرفتي، حين خطر على بالي أن أنظم أغنية في أسرع وقت ممكن". قد تُنتج العجالة، إن دهمت المغمور موهبةً ومقدرةً، عملاً فريداً. والفرادة هنا تحمل أوجهاً عدة، أسلوبية وثقافية، تُميّز جيل غاستون المعروف سوسيولوجياً بـ "جيل زي" (Generation Z)، ليس فقط من حيث الوسائل التعبيرية والأدوات الإبداعية التي بحوزته، وإنما أيضاً لجهة أنماط التفاعل والاستقبال التي اختارها، وباتت تفرض ملامح الأغنية الجماهيرية المعاصرة، ليس لجهة الخطاب فقط، وإنما أيضاً لجهة التقديم والتمثيل.
 
بدايةً بالتقديم، تعتبر Munch نموذجاً للمنتج الترفيهي المتوائم مع متطلبات الانتشار وسط عالم مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً الجيل المتقدم من المنصات، الموجّه للشبيبة، والذي يعتمد الكثافة الزمنية واستلاب الانتباه الذهني والاستحواذ على الحالة الشعورية للمستخدم بأقصى سرعة ممكنة، وذلك قبل أن يجرفه سيل الفيديوهات المنهمر من على شاشة محموله؛ إذ تبدو الأغنية أشبه بتحفة تِيكتوكيّة (نسبةً لتطبيق تِيك توك). تقلّ مدتها عن الدقيقتين، كما لو أنها خيطت حسب طول مدة الانتباه الذي ما انفك يقصر مع صغر العمر ومدى الاستغراق في التفاعل على الإنترنت. فبحسب دراسة أعدها فيسبوك، لم يعد متوسط انتباه المستخدمين هذه الأيام يتعدى مقدار ثانيتين.

المسألة لا تتعلق فقط بقصر الأمد، وإنما بالقدرة على الصدم الشعوري خلال مدة زمنية، لها أن تُحافظ على درجة عالية من التأثير بحيث لا تُطيح باشتباك المُشاهد، أو المستمع مع المحتوى الذي أمام مرآه ومسمعه. من العناصر المُتيحة لآليات الصدم الشعوري الإيقاعُ الإلكتروني بالغ التعقيد المسمى "نيويورك درِلّ" (New York Drill)، الذي يعتمد أنماطاً مركبة تُنتجها موصِلات رقمية Plug-in، أي آلات موسيقية على هيئة تطبيقات حاسوبية، تُبرمج لوغاريتمياً لتُولّد ضروباً إيقاعية غاية في التنوع، تلعب فيها الضربات الرشيقة المرتدة دوراً حيوياً في مدّ الموسيقى بعنصر الإثارة والإبقاء عليه لأطول مدة ممكنة.

لكن غاتسون لا تكتفي بوقع "نيويورك درِلّ"، وإنما تُناقضه مزاجياً في وضع كونتربوانتي، أي أسلوب الانسجام من خلال التقابل والتعارض؛ حيث صوتها المنخفض الممزوج بحال الاسترخاء واللامبالاة، ناهيك عن دفق النظم السيّال والفطري الذي تتميز به، كواحدة من أفضل فناني الراب في الفترة الراهنة، وأكثرهم طبيعية، تُتيح للأغنية سمة التنافر، وبالتالي تزيد من جاذبيتها، وقدرتها على الاستئثار بالحواس. بذلك، تُبرز Munch موهبة تأليفية لافتة لدى آيس سبايس، ومن تعاون معها في الإنتاج، لجهة توليف حذِق للعناصر الحسية، مع الاقتصاد في الموارد، والاحتفاظ بالمينيمالية إطاراً أسلوبياً عاماً، يصب في مساعي تأثيرٍ كثيفٍ وخاطفٍ في مجتمعٍ بات يُعاني أزمة تركيز وانتباه مزمنة.

هكذا، وما إن رُفِعت Munch على منصة تِيك توك في أغسطس/آب الماضي، سرعان ما لاقت نجاحاً فائقاً. مثل كلّ فريد لا يسعى إلى محاكاة المألوف، استدعت الأغنية لدى بعض المراقبين ردوداً فاترة، جعلتهم يعزون نجاحها إلى الحيّز الواسع الذي أُفسِح للإثارة الجسدية، وتلك سمة عامة لمقاطع الفيديو التي تُقدم الراب ونجومه، من النساء خاصة. إلا أن في ذلك الحيّز أيضاً رمزية تُميّز خطاب Generation Z عن الأجيال السابقة. فقوام إيزيس غاتسون لا يتمتع بالضرورة بالمقاييس الصارمة التي عادةً ما تُمليها الصناعة الموسيقية الترفيهية على الفنانات الصاعدات، إن سعَيْنَ إلى النجومية.

مع ذلك، تستعرض آيس سبايس أمام الكاميرا بجرأة، كأني بها تُخاطب مستمعيها ومعجبيها، بأن جيل آيس سبايس ليس بجيل "سبايس غيرلز" (Spice Girls) -نسبة إلى الفرقة الموسيقية النسائية البريطانية التي اشتهرت فترة التسعينيات- وأن لشبيبة اليوم، خصوصاً في المدن الكبرى ومن بين المختلطين عرقياً وثقافياً، رؤية مجتمعية عصرية، يسارية، ليبرالية الهوى، تنظر بعين أكثر انفتاحاً إلى التنوع بجميع مظاهره، وحتى الجسدي منه، تحضّ على التصالح مع الجسد أيّاً كان، وتحظر تعييره، في سبيل الحد من تسليعه وتعليبه. الأمر الذي يصبّ في مواجهة تسليع المرأة وتعليبها في وسائل الإعلام ودنيا الإنتاج الفني والترفيهي.

موسيقى
التحديثات الحية

من هنا، فإن Munch أغنية مُفعمة بالقوة؛ القوة التعبيرية، لجهة توفرها على العناصر الأسلوبية المُولّدة للصدم الشعوري، من نبض إيقاعي مُركّب، مُقلق ومُربك، ودفق أدائي واثق، مُرسَل وهادئ. ثم القوة الشكلية المُتمثّلة بالكثافة في الطرح والاقتصاد بالمدة، استجابة إلى متطلبات العصر. ثمة أيضاً القوة في الطرح الشخصي، وذلك في الصورة التي تُقدم آيس سبايس نفسها من خلال أغنيتها؛ شابة صغيرة مُراهقة، لكنها عازمة وواثقة من دون صخب، غير عابئة ولا مُبالية بآراء الآخرين وأحكامهم المسبقة.

المساهمون