Hannah Ha Ha: البحث عمّا لم نفتقده أصلاً

02 مارس 2023
من ملصق العمل (IMDb)
+ الخط -

يستجيب فيلم الثنائي الإخراجي، جوشوا بيكوفسكي وجوردان تيتوسكي الجديد، Hannah Ha Ha، لقلق الأفراد في المجتمعات المعاصرة إزاء فكرة العمل، ويطرح علاقتهم المتخبطة بمفهوم "المهن الثابتة"، خاصة ما استُحدث منها في العقود الأخيرة، أو تلك "التافهة" كما درجت تسميتها على إثر مقال العالم الأنثربولوجي ديفيد غريبر في كتابه الصادر عام 2018، تحت عنوان Bullshit Jobs.
تدور أحداث فيلم Hannah Ha Ha في بلدة شارون الصغيرة بولاية ماساتشوستس، هناك حيث يوجد تكتل واسع من أفراد الطبقة العاملة والوسطى الذين يكافحون يوميًا لكسب عيشهم في وظائف محدودة الدخل، وسط عالم تتبدل أنماط إنتاجه بشكل دراماتيكي، ومن بينهم هانا (هانا لي تومسون)، وهي شابة في الخامسة والعشرين من عمرها، تفيض سيرتها الذاتية بوظائف منخفضة الأجر وبدوام جزئي، ما يدفع شقيقها الأكبر بول (روجر مانكوسي) إلى الضغط عليها لتحقيق اتساق في مسيرتها المهنية، والعثور على وظيفة تؤمّن لها مسكنًا ودخلًا مناسبًا وتأمينًا صحيًا مستقلًا عن والدها أفرام تيتوسكي (جوردان تيتوسكي)، قبل حلول عيد ميلادها السادس والعشرين.
تعطي هانا دروس الغيتار تارة، وتعمل في خدمة الزبائن في متاجر البيع بالتجزئة تارة أخرى. تنظف وتفرك الأرضيات، وتقدم خدمات مدفوعة الأجر لجيرانها، أو تعدّ الطعام في محل للوجبات السريعة. تتنقل على دراجتها أو سيرًا برفقة الكلاب، ولا تبدو أنها تمانع أيًا من ذلك، خصوصاً أن عدم حصولها على شهادة جامعية لن يدفعها سوى "لاستدانة الأموال"، على حد قولها. يتزعزع استقرار هانا النفسي فقط مع وصول شقيقها بول من مدينة بوسطن برفقة صديقته كايتي، وهما نموذج معتاد عن العلاقات الأحادية المدنية، بما فيها من توتر وهشاشة ومثالية زائفة.
يتعالى الثنائي على حياة هانا ووالدها، خاصة بول، وهو موظف في شركة لا يُذكر اسمها عبر الفيلم، وسليل كتب التنمية الذاتية وقصص النجاح الزائفة، فلا يدع فرصة تمر من دون أن يذكّر من حوله بنجاحه، وأنه "الناجي الوحيد" من حفرة الفقر والحياة الريفية المحدودة، عازمًا طوال زيارته على محاصرة هانا وتذكيرها بخساراتها وبإمكانياتها "المهدورة" في ذلك المجتمع الزراعي الضيق، حرصًا عليها، أو خجلًا من أسلوب عيشها المتواضع.


بين حياتها المعتادة وأفكار شقيقها الرأسمالي العنيد، تقف هانا وسط قوتين متعارضتين يتنازعا مستقبلها، كما في لعبة شد الحبل. يدفعها إصرار الثنائي في آخر الأمر إلى قلب الأحجار بحثًا عن عمل آخر يمنحها ما لم تكن تفتقده أصلًا، فتضع سيرتها الذاتية على كل مكتب وتندفع للقاء سايمون، وهو رائد أعمال مبتدئ يعرفه شقيقها. يسألها الأخير عن "نوع شخصيتها" في مكان العمل، وغيرها من أسئلة مقابلات التوظيف السطحية، والتي تعتقد هانا أنه من الأفضل أن تتركها غير مجاب عنها.
لا أحداث متفجرة أو عِبَر خالصة، ولا نهاية لذلك القلق المتسلل تدريجيًا إلى حياة هانا الهادئة. تلك هي الحياة من وجهة نظر صانعي الفيلم؛ مجموعة من الخيارات المتضاربة، لكل منها ثمنه. ينتهي الفيلم كما بدأ، وعلى هانا وحدها الآن أن تواصل دحض الأوهام واكتشاف الحقائق، إلى أن يحين موعد عيد ميلادها القادم.
يحيي فيلم Hannah Ha Ha نوعًا سينمائيًا بدأ عام 2002 مع فيلم Funny Ha Ha لأندرو بوجالسكي، يُعرف باسم Mumblecore، وهو نوع فرعي من الأفلام المستقلة يتميز بالتمثيل الطبيعي من مؤدّين غير محترفين، والحوار المرتجل، والميزانيات المنخفضة، في وجه سيطرة هوليوود التجارية. تركز موجة Mumblecore السينمائية على حياة الشباب وتخبطاتها، لذا كان من الطبيعي أن تحفل بمواضيع الجنس والمخدرات واكتشاف الذات.
أما فيلم Hannah Ha Ha، مع أنه يروي قصة بلوغ من ذات النوع، إلا أنه بالكاد يحتوي على أي من المواضيع الفجة التي تميز أفلام قصص النضج. عوضًا عن ذلك، يستعير هانا من أسلوب الواقعية الاجتماعية، كما عرفناه في أفلام كين لوتش، ويبدي اهتمامًا خالصًا بالمسائل الطبقية المعاصرة، والصور الأكثر تشذيبًا للعبودية، إذ تحاكي مشكلة هانا الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها السياسية على حياة الشباب في مرحلة نموهم المهني، حيث يواجهون خطر الانزلاق إلى جحيم العطالة عن العمل، أو التخلي عن ما كان يعرّفهم سابقًا من أحلام وطموحات، وبعضها بسيط لا يتجاوز سهرة نار برفقة بعض الأصدقاء المحببين، أو الاستمتاع بعزف لحن جيد، كما في حالة هانا.
أما التأثير الأكبر على الفيلم، فهو من نصيب دراما "بالوعة المطبخ" البريطانية، وهي حركة ثقافية نشأت في ستينيات القرن المنصرم؛ تحاكي واقع الطبقة العاملة وحياتها اليومية بلا أي زخرفات، وتركز على تصوير مواقف وتحديات واقعية بطريقة مبسطة وصادقة.
انطلاقًا من ذات النهج الواقعي، يتطرق Hannah Ha Ha إلى مفهوم "نضال الألفية" غير المباشر، ويشكك في فكرة "انعدام الهدف" الشائعة في أفلام السينما المستقلة الشبابية، مرجحًا أنه ليس ضروريًا أن يكون للمرء "أهداف قصوى" حتى، ويحتج على نبذ العالم الجديد لطرق العيش البديلة، بحجة أخلاقيات العمل و"التمكين الذاتي"، مقوضًا كل بديل للنمط الرأسمالي، إما بالسخرية منه (Hippy-Dippy)، أو باعتباره شرًا مطلقًا يبتغي طمس البشرية بلون واحد.

يتطرّق فيلم Hannah Ha Ha إلى سؤال المهنة من زاوية وجودية، وليس اقتصادية فحسب؛ أهي فعلًا طريقتنا الوحيدة للشعور بالرضا عن أنفسنا، انطلاقًا من مبدأ "أنت ما تعمل"؟ أم أن رأس المال يحكم قبضته على الإنسان عبر مكننة وجوده وربط قيمته الجوهرية بقيمة العمل الذي ينجزه؟ لا شك أن بول يشكل نموذجًا عن الالتزام الأخلاقي الصارم بنظم رأس المال، يجسدها بلغته القادمة من عالم التنمية البشرية (الكاذب) وأخلاقياته الاقتصادية الجافة، وعلاقته "المستثمرة جيدًا" بكيتي. وحده عمّ هانا من يجرؤ على التساؤل: "لم يحتج المرء وظيفة جدية؟"؛ في برنامجه على الراديو، مصرحًا عن أفكار من طُمروا برسائل البريد والإيميلات الرسمية والمواعيد النهائية الوهمية أملًا بحياة سعيدة، إلا أن تلك الأخيرة هي أبعد ما يكون عن واقعهم، كما هو الحال مع كيتي وبول.
من ناحية الشكل، يتخذ Hannah Ha Ha موقفًا صارمًا عبر خياراته البصرية المتطرفة وتصويره بأسلوب الفيلم الوثائقي السينمائي الواقعي، خاصة اختياره للصورة الضبابية على طول الفيلم، وكأن بخار الماء يتكاثف فوق عدساته ليصنع لقطات Out of focus، التزامًا ببنود الميزانيات المنخفضة ربما، أو رغبةً في إضافة نغمة حالمة على الفيلم، تضعه في مصاف السينما التجريبية.

أيًا كان السبب، إلا أن تلك المقاربة التصويرية، وخصوصًا التشبع الزائد، تشكل إحدى مكامن ضعف الفيلم. قد لا تحرمه من الظفر بجوائز هامة، وقد حاز بالفعل جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مسابقة الأفلام الروائية لمهرجان سلام دانس، إلا أنها ستجعل من عملية تلقيه عسيرة وغير ممتعة، خاصة بالنسبة للباحثين عن الإبهار البصري أو الأحداث المتقلبة والمشاهد الصاخبة.
تعدنا تلك التجربة الأولى لمخرجيها الشابين بالمزيد من الأعمال المخلصة لواقعها، وتضع منتجي هوليوود وغيرهم من المتذرعين برغبات الجماهير لإنتاج أفلام تستغرق في الخيال في موقف حرج أمام متلقيهم المتعطشين لأفلام تفعل ما يفعله فيلم Hannah Ha Ha بسلاسة مطلقة.

المساهمون